strong>بشير صفير
  • الرســـولة الآتيـــة مــن غيتـــوات دالاس إلى ليـــل بيــروت

  • إنّها وريثة البؤس الذي يحاصر السود في أميركا... وابنة التراث الموسيقي العريق الطالع من عذابات «العبيد». عارضة الأزياء سارت على خطى نينا سيمون، وصارت مغنية جاز في باريس. مساء الاثنين ستناجي بيروت الصامدة، بلغة السول والغوسبل والبلوز

    عندما أُعلنت حفلة المغنّية الإفريقية الأميركية ديمي إيفنز، لم يكن أحد يتوقّع أنّ نشاطاً موسيقياً ما زال ممكناً في لبنان... ولا سيما عندما يكون الفنّان أجنبياً وصاحب شهرة عالمية. وعندما تردّت الأوضاع الأمنية الى درجة بات مصير الوطن والمواطن مجهولاً بين خلية إرهابية هنا وتفجير هناك، بات شبه مؤكد بأنّ الحفلة المذكورة ستُلغى، وخصوصاً أنّ معظم الحفلات التي أُعلنت في الفترة الأخيرة، أُلغيت بدورها حتى تلك التي كان سيقدّمها فنّانون محليون. أما مهرجانات الصيف الدولية (بيت الدين، بعلبك، صور، بيبلوس...) فقد أُجّلت المؤتمرات الصحافية المخصّصة لإعلان برامجها، ونتمنّى ألا يصار إلى إلغائها نهائياً تحت وطأة الأمر الواقع.
    لكنّ كريم غطاس مدير «ليبان جاز» شاء غير ذلك: ديمي إيفنز ستأتي إلى بيروت لتغنّي في ليل القلق. مرةً أخرى، يعود مهرجان الجاز الدائم Liban Jazz الى الواجهة الخالية في المشهد الفنّي اللبناني، مقدماً حفلة استثنائية للمغنية السوداء.
    وكان آخر نشاط قدمه المهرجان المذكور هو حفلة رباعي إريك تروفاز، عازف التروبيت وموسيقي الجاز الفرنسي الذي قدّم حفلة ناجحة في 4 نيسان (أبريل) الماضي في نادي «ميوزكهول» البيروتي الذي يستضيف جميع حفلات ليبان جاز بعد «مهرجان الزوق» حيث انطلق قبل عامين.
    ليست المرة الأولى التي يجد فيها مؤسّس المهرجان كريم غطّاس نفسه بين مطرقة الفنّان الأجنبي (الذي قد يعتذر في اللحظة الأخيرة عن عدم المجيء إلى لبنان خوفاً على حياته)، وسندان التقلّبات السياسية والأمنية اللبنانية.
    لكنّ عدم إلغاء هذه الحفلة يعود بالتأكيد الى إصرار القيمين على تقديم بديل جميل وعابر... لواقع بشع ودائم طوال ساعة أو ساعتين من الموسيقى. ويضاف الى موقف غطاس الذي أعلن أن ريع الحفلة سيعود إلى «الصليب الأحمر اللبناني»، موقف الفنّانة الضيفة نفسها الذي ينطوي على شجاعة كبيرة، ونبل جميل. لماذا يخاف من العنف، مَن ترعرع في غيتوهات السود، وذاق مرارة الحياة كما ينظر إليها «الناس اللي تحت». لا تبدو ديمي إيفنز غريبة عن المعاناة اللبنانية، إذا نظرنا بعمق إلى مسارها الموسيقي.
    هل ينبغي أن نذكّر بأنّ ديمي، مغنّية البلوز والسول ووريثة الجوهرة السوداء نينا سيمون، لم تعرف طوال حياتها ألق الأضواء وألق النجوميّة، هي التي تعتبر من أبرز رموز هذا النمط الموسيقي والغنائي الخاص بالسود وتاريخهم الحافل بالعذاب والاضطهاد.
    تتميّز إيفنز بصوت متمكّن ذي طاقة كبيرة ضرورية لأداء الغوسبل والبلوز. وهذه الميزة دفعتها إلى اختيار الاستقلالية والظهور المنفرد على المسرح بعدما عملت مع كبار الموسيقيين في التسعينيات.
    هكذا أتت الى فرنسا لتبدأ مسيرتها المستقلة مغنّيةَ سول وبلوز وفولك بوب، وقدّمت أغنيات من تأليفها، وأخرى من كلاسيكيات الجاز بأسلوب يجمع بين الشاعرية والرهافة، والحس الإنساني والنزعة النضاليّة على الدوام!
    أصدرت إيفنز أسطوانة واحدة حتى اليوم بعنوان Why do you run في تموز 2006، زاوجت فيها بين السول والبلوز، مع التفاتة الى موسيقى الكاونتري والجاز. يومها علّقت على صدور باكورتها كفنانة مستقلّة: «مثل كثيرين منّا، تقلقني الوجهة التي يتّخذها كوكبنا، وأنا مؤمنة بأنّ التعبير عن هذا القلق، من شأنه أن يسهم في تغيير مجرى الأمور».
    لا شك في أنّ مسيرة ديمي أو ديميتريوس إيفنز الشخصية هي التي رسّخت لديها هذا الهمّ الإنساني. ديمي التي أبصرت النور في ضواحي شمال دالاس الفقيرة خلال الستينيات، تشرّبت الموسيقى الشعبية التي كانت تحدّد إيقاع الحياة في غيتوات السود في أميركا، من الـ Gospel إلى الـ Blues، مروراً بالـ Soul.
    الغوسبل كرّسها مغنّيةً في كورال الكنيسة المعمدانية التي كانت ترتادها طفلةً. والسول بلغ أوجه، يوم كانت أميركا تشهد المعارك من أجل الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينغ. والبلوز الذي كانت تعشقه ويذكّرها بوالدها الغائب دائماً خلف البيانو في أوركسترا بوبي بلاند أحد أبرز المغنين الأفارقة الأميركيين الذي مزج الغوسبل والبلوز.
    ذات يوم شاهدت الشاب مايكل جاكسون على التلفزيون، فقررت أن تصبح مغنّية. هكذا تغيّر كل شيء في حياة ديمي إيفنز: «أردتُ أن أفعل شيئاً مختلفاً عن صبيان الحيّ. كان معظمهم فقيراً ومحروماً، وأردتُ أن أكون ذلك الإنسان الذي سيساعدهم في الخروج من هذا المأزق. بالنسبة إليّ، كانت الخشبة وسيلة للتواصل مع الآخرين، لكي أظهر لهم الطريق التي ينبغي سلوكها».
    سافرت الشابة الطموحة إلى لوس أنجلس، لتصنع لها اسماً في عالم الموضة أواسط الثمانينيات... اعتلت منصات باريس وميلانو وفيينا وغيرها في أوروبا في أزياء جان بول غوتييه وكريستيان لاكروا وغيرهما من أباطرة الموضة. ثم تعرّفت بالـ دي جي الألماني سفين فاث، وسجّلت معه أغنيات طغت عليها موسيقى البوب... لتبدأ لاحقاً بكتابة كلمات أغانيها بناء على نصيحة المغنّي الأميركي ستيفي واندر. هكذا تركت ديمي عالم الأزياء إلى غير رجعة مكرّسةً حياتها كمغنية ومؤدّية ومؤلفة تقيم في باريس.
    واليوم تحمل زيارة إيفنز لبيروت دلالات عدة، إذ إنّها تؤكد أنّ النضال ما زال ممكناً، وأنّ تلك الموسيقى التي يرى بعضهم «أنها من الماضي»، ولا مكان لها في عالم الأصوات المعاصر، ما زالت جديرة بالاهتمام من طرفي اللعبة الموسيقية: الفنان والجمهور. هكذا سيتعرّف محبّو الموسيقى عموماً، والموسيقى السوداء خصوصاً، بالمغنية المغمورة ديمي إيفنز بعدما تركت الجمهور الفرنسي مبهوراً بالحفلة التي قدّمتها في باريس في أيار الماضي.
    تجدر الإشارة الى أنّ ريع الحفلة سيعود الى الصليب الأحمر اللبناني في لفتة تضامنية من ديمي إيفنز مع الشعبين اللبناني والفلسطيني ومعاناتهما. ليست المرة الأولى التي يخاطب فيها كريم غطّاس الضمير الجماعي من خلال الموسيقى... فالجمهور العربي في فرنسا يذكر جيداً الحفلة الضخمة التي نظّمها في أيلول الماضي، في مسرح «روان بوان» الباريسي، جامعاً 25 موسيقياً من العالم في مبادرة تضامنية مع لبنان بعد عدوان تموز.

    ديمي إيفنز في الـ«ميوزيكهول» ــــ الاثنين 2 تموز (يوليو)، سعر البطاقة عشرة آلاف ليرة لبنانية، 361236/01