باريس ـــ عثمان تزغارت
ليست مارين جاكمان غريبة عن لبنان الذي عايشته كمراسلة حرب، منذ عشرين عاماً. بعد 14 شباط 2005، حملت كاميرتها من جديد وعادت إلى البلد الذي «تنتظره هزات جديدة». النتيجة وثائقي بعنوان «لبنان: حياة أو موت». فهل تكون شهادتها مغايرة للخطاب الإعلامي الرسمي في فرنسا؟ الإجابة غداً على «فرانس 5»

شريط توثيقي فرنسي بعنوان «لبنان: حياة أو موت»، يُعرض غداً على شاشة «فرانس 5»... أول سؤال يتبادر إلى الذهن: هل يمكن لعمل كهذا أن يخرج عن نمطية الخطاب الرسمي السائد في فرنسا؟ أو أن يبتعد عن التيمات المستهلكة عن لبنان («موالاة» و«معارضة»، «أكثرية» و«أقلية»)؟ مَن يعرف الآليات التي تتحكّم بإنتاج عمل تلفزيوني فرنسي بهذا الحجم (52 دقيقة)، يدرك أنّ رهان الاختلاف ليس سهلاً... لكنّ هذا الوثائقي يحمل عاملين مشجّعين على مشاهدته.
ينطلق الأول من جدّية قناة «فرانس 5» وتميّزها، هذه المحطة التي تأسّست في مطلع التسعينات على أنقاض قناة «لا سينك» البيرلوسكونية، أُريد لها منذ البداية أن تكون «قناة المعرفة». وهي اليوم، تشكل حالة استثنائية في المشهد التلفزيوني الفرنسي، وتعدّ مفخرة مؤسسة «فرانس تلفزيون» الرسمية. وذلك بفضل تشكيلة مميزة من البرامج، فضلاً عن سياسة طموحة في مجال إنتاج الأعمال الوثائقية وعرضها.
عامل الجذب الثاني يتمثّل في هوية معدّة الشريط وبطلته: مارين جاكمان (اشتركت في الإخراج آمال هاملان دي إسارت) التي هي أول «مراسلة حرب»، كسرت حاجز الاحتكار الرجالي لهذا الاختصاص في التلفزيون الفرنسي، منتصف الثمانينات. وقبل بضعة أشهر، غادرت قناة «تي إف 1»، مغلقةً الباب وراءها بعنف لأسباب أخلاقية. والتحقت بـ «فرانس 5» حيث تقدّم برنامجاً أسبوعياً بعنوان «محادثة سرية». ويسجّل هذا الشريط عن لبنان عودتها إلى حبّها الأول: العمل التوثيقي الميداني.
إلا أنّ اختيارها لبنان لم يكن مصادفةً. فهنا خاضت أولى وأقسى تجاربها كمراسلة حرب في عام 1985. وتستعيد تلك التجربة في شريطها الجديد، قائلةً: «كانت صدمة قوية بالنسبة إليّ، حين وصلتُ إلى بيروت، في أول تغطية لي كمراسلة صحافية. لم يسبق أن رأيتُ في حياتي مشهداً بمثل ذلك الدمار. كنتُ أتأمّل كل شيء حولي، فلا أجد بناية واحدة لم تصبها القذائف. كنتُ شابة بريئة، ولم أكن أعرف كثيراً عن هذا البلد الذي كان يلتهب منذ عشرية كاملة، ولا عن مخزون العنف الذي يمكن أن يخفيه الطبع البشري. هنا، تذوقتُ طعم الجحيم للمرة الأولى، وتغيرتُ إلى الأبد. كما تبدلّت نظرتي إلى الأشياء وإلى البشر...».
خلال عشرين سنة قضتها على جبهات الحروب، من الصومال إلى البوسنة، ومن الجزائر إلى أفغانستان، ومن رواندا إلى العراق، عايشت مارين جاكمان بشائع حروب شتى. لكنها، حين شاهدت على التلفزيون، مساء ذلك الرابع عشر من شباط (فبراير) 2005، صور اغتيال الرئيس الحريري، تملّكها الرعب، وتوقعت على الفور بأن ذلك البلد الذي شهد بداياتها على «دروب العنف» مُقبل على هزّات جديدة. قرّرت أن تتأبط كاميرتها من جديد، وسافرت إلى لبنان لتقف مرة أخرى على «خط النار». وإذا بها تكتشف، على الأرض، بأن خط النار بات خطوطاً، بفعل تعدد وتداخل الحرائق والنيران. لكنها لم تدخل في متاهات الجدل الجيو ـــــ سياسي، وأدركت أن مختلف التصنيفات والقراءات، سواء السياسية منها أو الطائفية أو الدينية، لم تعد تفي بالمعنى.
بفضل تلك «الحساسية النسوية» التي جعلتها هي وزميلاتها من «مراسلات الحروب» (راجع البرواز)، مثار تهكّم وسخرية في بداياتهن، قبل أن تخوّلهن لاحقاً تأسيس مدرسة مغايرة في تصوير وتناول آلام الحروب. انطلقت مارين جاكمان في مشروعها من فكرة أساسية: التصنيف الوحيد الذي يفي بالأبعاد الحقيقية لما يدور من صراعات متداخلة في وحول لبنان، إنما هو صراع هذا البلد من أجل أن يعيش في مواجهة جهات متعددة وحسابات إقليمية متداخلة، تضعه دوماً على حافة الدمار والموت.
ارتمت مارين جاكمان، على مدى أشهر، في أتون هذا الجحيم اللبناني الجديد، بحثاً عن قرائن ملموسة تؤكّد حدسها الأنثوي. ابتعدت عن الخطابات السياسية وتحاليل الخبراء، وغاصت في التفاصيل: 30 ألف بلاغ يومي تتلقاه أجهزة الأمن والجيش في لبنان حول عمليات إطلاق نار أو تفجيرات أو عبوات مشبوهة يراها الناس أو يتوهمونها مزروعةً في كل مكان...
رافقت جاكمان دوريات الشرطة، لتطارد أشباح الرعب الذي عاد ليعشّش في كل مكان، حتى في مخيلتها التي استيقظت فيها أطياف تجربتها البيروتية الأولى في الثمانينات. وقبل أن يقع الشريط في فخّ النرجسية والانكفاء على التجربة الذاتية، جاء العدوان الإسرائيلي في تموز (يوليو) الماضي، ليؤكد ببشائعه وضراوته أن الصراع هو بالفعل صراع اللبنانيين جميعاً من أجل حياة أو موت بلدهم.
وقد حرصت جاكمان أن ينتهي شريطها بنغمة ــ ولو طفيفة ــ من التفاؤل. وذلك عبر نقلها للتجربة القاسية التي عاشتها مي شدياق، من العلاج حتى عودتها إلى الشاشة، وذلك لتصوّر كيف خاضت معركة «حياة وموت»، تلخّص نوعاً ما، المعركة التي يخوضها البلد...

الأحد 13:25 على «فرانس 5»