أمل الأندري
«شجرة الآس»، رواية جاد الحاج الجديدة بالإنكليزيّة، تعيدنا إلى أجواء القرية اللبنانيّة، مع اندلاع الحرب الأهليّة. يستعيد الكاتب والشاعر اللبناني تلك الأزمنة الصعبة، تاركاً قارئه (الأجنبي) بين افتتان وذهول: كيف استحالت تلك الجنّة المطمئنّة جحيماً للعنف والانقسام؟

«بدأت آخر حروبنا الأهلية في السبعينيات وانتهت على مراحل في أوائل التسعينيات، حسب تحديد كل منّا لـ«البداية» و«النهاية». فعدم اليقين هذا هو الذي يميّز الصراع برمّته. لكنّ اليقين هو أنّنا قتلنا بعضناً بعضاً لأكثر من 15 سنة». هكذا يبدأ جاد الحاج الملاحظة التاريخية التي ذيّل بها روايته الجديدة «شجرة الآس» The Myrtle Tree، الصادرة بالانكليزية عن دار «بانيبال بوكس».
«شجرة الآس» التي هي رمز الحب والخصوبة في الأساطير الإغريقية، قد تبدو تكملة لمشروع الحاج الأدبي في استعادة القرية اللبنانية تحديداً في جحيم الحرب الأهلية. إذ إنّ روايته الأولى Green and Dry (1988) التي نُشرت في أستراليا، تستعيد قصّة قرية لبنانية نائية يستعدّ أهلها لموسم قطاف الزيتون، آملين أن تبعد الحرب الأهلية عنهم أشرارها ليستمروا في علاقتهم تلك مع الأرض. وها هي «شجرة الآس» تستكمل هذا المشروع، مستعيدةً قصّة قرية لبنانية بعاداتها وتقاليدها تعيش فصلاً آخر من فصول الحروب الاهلية في هذا الوطن الذي يرقص دوماً على فوهة البركان.
من خلال قرية وهدة اللبنانية، يعود صاحب «الهجرة الأخيرة» إلى آخر فصل من فصول الحرب الأهلية الدامية والمؤلمة. نحن في الـ 1975، الحرب اندلعت في بيروت... وشيئاً فشيئاً ستمتد إلى باقي المدن والقرى اللبنانية. ولن تنجح وهدة في تجنّب التورّط في وحولها، أو مقاومة أبواب الجحيم المشرّعة على مصراعيها أمام هذا الوطن وأهله.
لكنّ الحرب ليست إلا أحد مستويات البنية السرديّة. إنّ رواية الحاج الخيالية هي أيضاً وسيلة لاستعادة طقس قديم، من خلال العلاقة بين الانسان والأرض، علاقة فترت في الأزمنة الحديثة ووهنت خيوطها. والحاج بذلك يستعيد موروثاً شعبياً وتقاليد وعادات وأعرافاً اجتماعية وثقافية لفّها النسيان وهي التي تؤسّس لقاعدة تماثل بين اللبنانيين. هكذا، سيقوم الكاتب والشاعر اللبناني بنزوح معاكس هذه المرة، من المدينة إلى القرية، عائداً إلى الجذور ليحكيها ويحييها ويذكّرنا بها. كلّ ذلك من خلال آدم بطل الرواية. ذاك الشاب الجامعي المثقف الذي يعيش في وهدة، ويعمل في أحد المصارف في قرية مجاورة، تعلّم في المدينة ثم ارتبط بصديقته وقرّرا الانتقال الى القرية، ليعيشا حياتهما عبر اعادة تشغيل معصرة والده. وبين الشخصيات الرئيسية في الرواية، لدينا عمّه الحكيم الذي يُعدّ من وجهاء القرية، يرجع إليه سكانها في كل شاردة وواردة بدءاً من خلافاتهم العائلية الصغيرة وصولاً إلى القرارات المصيرية.
آدم أو ابن عواد كما يسميه أهل القرية، هو إذاً دليلنا في الرواية، يتلو علينا الاحداث ونتعرف تدريجاً إلى شخصيته «الغاندية»، وشخصيات أهل القرية والممارسات والتقاليد والأعراف السائدة في القرى. هكذا، سيدخلنا في فضاءات قديمة ومجتمعات ريفية بدائية يصعب معرفة لونها الطائفي أو المذهبي، لأنّ العادات والتقاليد اللبنانية والموروث الشعبي أقوى من الاختلافات الطائفية الطفيفة.
عودة آدم إلى قريته كانت من أجل إعادة تشغيل معصرة والده والاعتناء بأشجار الزيتون، تلك الشجرة المتجذّرة بعناد في الأرض، تعيش حتى في أشد مواسم الشتاء قساوةً، وحين تلجأ الأشجار الأخرى إلى الراحة في الخريف، تستمر هي في العطاء. الا أنّ إعادة تشغيل معصرة الوالد، لن تكون سهلةً. فالحرب بدأت تحصد الأرواح في بيروت منذ ستة أشهر وها هي تدبّ شيئاً فشيئاً إلى وهدة، حيث ستقلب حياة سكانها الهانئة رأساً على عقب بل ستتحول القرية إلى مرمى نيران بين الميليشيات المتناحرة.
تبدأ الرواية بزيارة يقوم بها أحد قادة الميليشيات لمنزل عم آدم. إذ يطلب من الحكيم مفتاح قلعة قديمة في القرية يقال إنّها مسكونة، كي يحوّلوها إلى معسكر لتدريب أهل المنطقة وتسليحهم للدفاع عن أنفسهم ضد أي اعتداء محتمل من أهالي القرية المجاورة. سيقاوم الحكيم، عم آدم، قدر المستطاع. لكنّ النتيجة هي تأجيل الحرب ليس الا. وبعد ثلاثة أسابيع فقط، سيسلّم أهل وهدة مفتاح القلعة بعدما انتهى موسم قطاف الزيتون.
مع تطوّر فصول الرواية، يغوص الحاج من خلال آدم، في إبراز آثار الحرب السلبية في إطار سردي أتى مزيجاً من المشاهد الحيّة واستعادة الذكريات. وفي هذا السياق أيضاً، تطالعنا مشاهد الذبح والقتل على الهوية والخطف، فيجد أهالي وهدة أنفسهم أمام خيار الهجرة أو التورّط في جحيم الحرب.
وهنا بالذات، تكمن أهمية الرواية. إذ تتضمّن بين ثناياها رسائل كثيرة: هي تحكي قصّتنا، حياة الانسان التي تتأرجح دوماً بين الحب والكره، المدينة والقرية، العنف والسلام... كل ذلك من خلال شخصيات أهالي القرية: منهم من دخل الحرب، لأنّ مصلحته تقتضي ذلك، ومنهم مَن اختار الرحيل والهجرة، ومنهم مَن دخل الحرب إيماناً منه بقضية اعتبرها «محقّة».
نجح جاد الحاج في الخروج برواية تستوفي الشروط والمعايير الفنية، وحقق هدفه باستعادة موروثنا الشعبي بطريقة تخدم الرواية. والأهم أنّه نجح في تطويع لغة شكسبير، ناقلاً العديد من المصطلحات العامية اللبنانية إلى الإنكليزية، بطريقة حافظت على شحنتها العاطفية والدلالية، وظلّت مفهومة للقارئ الأجنبي الذي لا يعرف الكثير عن عادات هذا البلد وأعرافه. وقد كتب باتريك سيل عن «شجرة الآس» أنّها «أفضل من أي تحليل سياسي» لفهم الحرب الأهلية في لبنان بدوافعها وخلفياتها.

يوقّع جاد الحاج روايته «شجرة الآس» في السابعة من مساء اليوم في مكتبة «فيرجين» ـــ سيتي مول، الدورة (01،887190)