خليل صويلح
أمضى علي جباوي عقداً من الزمن لإنجاز أول دراسة أنتروبولوجية عربية ترصد عالم «النَّوَر» (بفتح الواو) على امتداد خريطة بلاد الشام، بهدف تصحيح النظرة السلبية إلى هؤلاء القوم الجوّالين، وإنصافهم من الظلم والإجحاف الاجتماعي الذي يحيق بهم. كتاب «عشائر النَّوَر في بلاد الشام» (دار التكوين ـــ دمشق)، يسلّط الضوء على أماكن وجود تلك القبائل وطبيعة حياتها، إضافة إلى الأعراف التي تتحكم بهذا المجتمع الهامشي المهمل. عاش الباحث الأنتروبولوجي مع النّوَر، رافقهم في حياتهم اليوميّة، وشاركهم نمط عيشهم، ساعياً إلى الإحاطة بالتراث الثقافي لعشائر النَّور. يعود هذا التراث إلى أصول هندية بعيدة تتوزع اليوم بين أماكن مختلفة، وتحت أسماء ومهن متعددة مثل «القرباط» و«القرج» و«الطبالة». يعمل النوَر في مهن يدوية بسيطة، فيما يختص بعضهم الآخر بالرقص أو التسول والوشم وكشف الطالع. يكشف علي جباوي أستاذ مادة الأنتروبولوجيا في جامعة دمشق، أنّ المرأة هي عمود البيت لدى النَّور، فيما يكتفي الرجل بالجلوس في الخيمة في انتظار عودة النساء من أعمالهن. لكنّ التغيرات الاجتماعية الطارئة أثّرت في نمط حياة النَّور، فآثروا الاستقرار في منازل ثابتة عند أطراف المدن، ما سيقود لاحقاً إلى احتضار ثقافتهم الروحية والثقافية، وفق ما يشير المؤلف. يقتفي علي جباوي ميدانياً، أحوال هؤلاء القوم بحثاً عن دلالات أنتروبولوجية، سواء لجهة النظرة الدونية للنَّور، أو لجهة عاداتهم في الزواج والثأر والترحال. وهم يعتمدون على خطف النساء عند الرغبة في الزواج، نظراً إلى غلاء المهور. المرأة الغجرية الجميلة «بضاعة» ثمينة لا يفرّط بها، «فالقرباط يرفض تزويج الفتاة القرباطية لشخص غير قرباطي. ويعتبر ذلك في حال حدوثه عاراً على الأسرة، قد يؤدي إلى قتل الفتاة».
ويشير الباحث إلى خصوصية لغة النَّور التي يسعون إلى الحفاظ عليها، كمحصلة لطبيعة حياتهم المغلقة. وهي مزيج من الكردية والتركية والفارسية، إضافة إلى اللغة العربية. وهم يتكلمون غالباً بصوت عال، كما لو أنهم يتشاجرون. ويخلص علي جباوي في نهاية بحثه إلى أنّ «النّور» قدريّون، يؤمنون بالحظ والجان والشياطين والأرواح الشريرة. لذلك يزيّنون صدور أطفالهم بالخرز الأزرق لحمايتهم من الأرواح الشريرة، ويعتقدون أنّ روح الموتى تطاردهم، ما يجعلهم يحرقون ثياب الموتى، ويرحلون بعد دفنهم إلى مكان آخر، ويقومون بأعمال بهلوانية لتضليل روح الميت بتغيير أسمائهم وصبغ وجوههم.
مَن يعايش قبائل النور، كما يوضح مؤلف الكتاب، سيساوره اعتقاد بأن النور أناس يرضون بالعيش على هامش المجتمعات كفئات منغلقة، تدمن حياة اغتراب كلّي عن محيطها الاجتماعي، ولا تتعاطى الشأن العام. لكن الحقيقة أن الجحف الاجتماعي الذي لاحق سيرتهم، والتصورات الخاطئة عن سلوكياتهم المعيشية، هي من العناصر التي أسهمت أساساً في ترسيخ عزلتهم، وفي جعلهم أكثر غموضاً وريبةً في نظر الآخر.