strong>بيسان طي
  • «معرض المعارف» ورهان التعددية والانفتاح

    من تحت الردم انبعث معرض المعارف للكتاب المتواصل حتى 13 أيار، رافعاً بيد راية المقاومة، وبالأخرى شعار التنوّع والحرية وحق الاختلاف... جمهور الدورة الثانية تضخّم قياساً إلى العام الماضي، فهل ينخرط في هذا الرهان الجريء؟

    المتقاطرون بالآلاف إلى مجمع «سيد الشهداء» في ضاحية بيروت الجنوبية، حيث يقام «معرض المعارف الثاني للكتاب العربي الدولي»، يحفظون للمكان زاوية في القلب، مذ أحالته الطائرات الإسرائيلية خلال حرب تموز الماضية دماراً. حول المجمع الشواهد كثيرة على العدوان، مبان مدمرة، وبؤر تغور عميقاً في الأرض، تُذكّرنا بأنّ بيوتاً وعائلات كانت تقيم مكانها. وحدها وجوه الناس تعكس إرادة صلبة للحياة، والمجمع أيضاً في انبعاثه السريع من تحت الأنقاض يرفع شارة النصر، ويطرح التحدّي. هذه الإشارة القويّة التقطها بسرعة بعض الزائرين العرب: «في ظروف كهذه يواجه المرء الموت، ويبحث عن مقوّمات الاستمرار... أما أن يأتي أن نقدّم الكتاب للخارجين من دوامة الحقد والموت والدمار، فذلك من أرقى أساليب المقاومة وحب الحياة». طاولات بسطت فوقها كتب انتُشلت من تحت أنقاض المباني المدمرة في العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، والغبار ما زال عليها علامة على أن هذه الكتب أيضاً قاومت العدوان.
    المجمّع أُعيد بناؤه بسرعة قياسية، ليحتضن نشاطات سياسية ودينية. وها هو بعد تسعة شهور على العدوان، يستضيف معرضاً للكتاب تنظمه «جمعية المعارف الإسلامية الثقافية». حسن نصر الله افتتح المعرض شخصياً كما هو معروف، وكل ما فيه كان يؤكّد على أن حزب الله الذي ربح في الحرب، يريد أن يشارك في بناء السلم الأهلي وازدهار الحياة الثقافية القائمة على الديموقراطية والتعددية. وقد دعيت الدور اللبنانيّة كلّها إلى المشاركة في المعرض، وأعفيت من أية رسوم أو اشتراكات.
    يمتد المعرض على نحو 6 آلاف متر مربع، وتشارك فيه 207 دور نشر لبنانية و58 داراً عربية وأجنبية، ويُعرض فيه 11 ألف كتاب. ويتضمن برنامج المعرض الذي يتواصل حتى 13 أيار (مايو)، عدداً من الندوات والمحاضرات والأمسيات الشعرية وتواقيع الكتب. ولا بد من الإشارة إلى الإقبال الكثيف على توقيع كتاب نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم «الشباب شعلة تحترق»، وتوقيع الشيخ سامي خضرا لكتابه «الخائبون» عن هزيمة الجيش الإسرائيلي في حرب تموز.
    لمسات «الحزب» واضحة على المعرض: من العناصر التي تتولّى المسائل التنظيميّة... إلى الأناشيد التي تصدح بها مكبرات الصوت. كل شيء منظّم هنا، وموحّد، مثل أكياس الكتب الموحّدة التي قدمتها الادارة للناشرين. لكن كتباً مثل «دولة حزب الله» لوضاح شرارة و«بلاد الله الضيّقة» لفادي توفيق... معروضة بشكل بارز، إلى جانب عشرات العناوين الأخرى لكتّاب ينتقدون «المقاومة»، أو يهاجمون «الحزب»، ويعتبرون أنه يقيم في الضاحية الجنوبية «دولة ضمن الدولة». تفاجئ هذه العناوين الزائر، يتنبّه بعدها إلى أنّ دور النشر التي أُعطيت حق الصدارة في المعرض هي تلك التي لا يصعب تصنيفها في خانة المعارضة.
    نسأل ممثلي الدور، فيؤكدون أن المنظمين لم يضعوا عليهم شروطاً... تُركت الحرية لكل دار بأن تعرض ما تشاء إلّا ما لا يتوافق مع قانون المطبوعات اللبناني ـــ أي ما يثير فتنة طائفية أو يخدش الحياء. لكن الروايات، التي صنّفت أحياناً إباحية أو الجريئة التي أثارت نقاشاً واسعاً في الأشهر الأخيرة، موجودة في معظمها من «برهان العسل» لسلوى النعيمي (الريّس)، إلى «اختلاس» هاني النقشبندي (الساقي)، مروراً بـ«حب في السعوديّة» لابراهيم بادي (الآداب).
    هل يسعى منظّمو المعرض إلى كسر الصورة النمطيّة الرائجة عنهم، كـ«جماعة متزمتة» لا تقبل بالرأي الآخر؟ بإمكان زائر «معرض المعارف الثاني للكتاب العربي الدولي» أن يتوقف أمام رفوف دار صغيرة ورصينة، ومعروفة بمواقفها وعناوينها النقديّة من سياسة حزب الله. لكن مديرة الدار لم تكتم انتقادها: الجماهير تزحف لشراء كتب الشيخ نعيم قاسم وحضور حفلة التوقيع التي أقامها... نحن لسنا سوى كومبارس في هذه الاحتفالية. لقد تمّ استغلالنا!
    وإذا كان الإقبال قد تركّز على نوع معين من الكتب، على حساب أخرى، فربّما يعود السبب إلى تركيبة الجمهور الطبيعي للمعرض. لا يمكن أن ننسى أننا في الضاحية، أشهراً بعد العدوان... وأن أبناء الضاحية الجنوبية أو القاطنين فيها معظمهم من المؤيدين لحزب الله. الزوار من المناطق الأخرى، والآفاق السياسية والفكريّة الأخرى، أقليّة هنا، رغم الإعلانات الترويجية التي غطت معظم الأراضي اللبنانية. ومع ذلك فقد أتوا. ودخلت الكتب النقديّة، والجريئة (جنس أو غيره) إلى الضاحية... دليلاً على تغيّر في الذهنيات، ولو بطيئاً.
    قام المنظمون بجهد حقيقي لجعل نشاطهم الثقافي ليبرالياً، لكن إدارة المعرض تبدو سابقة لجمهورها ببعض المحطات والمراحل... الكتب الأكثر مبيعاً كما يبدو حتى الآن، هي عن الانتصار في حرب تموز، ثم الكتب الدينية وكتب الأطفال وكتب المطبخ والجمال. تليها كتب لأسماء مشهورة على المستوى العربي الواسع، من محمد حسنين هيكل إلى سيد قطب. وهناك أيضاً الكتب التي يتفوق فيها الطابع التجاري على الجانب الفكري ككتب دار «أكاديميا». لم يكترث زوّار هذا المعرض كثيراً إلى إنتاجات فكرية وثقافية أدبية متميزة، والإقبال على أهم الدور اللبنانية كـ«دار الآداب» و«دار الريس» و«دار الساقي» لا يُقارن (في الأيام الأولى) بما كانت عليه الحال خلال الدورة الأخيرة لـ«معرض بيروت العربي الدولي للكتاب».
    أما حجم الإقبال على «معرض الضاحية» هذا العام، فيفوق بكثير ما كان عليه العام الماضي. في الأيام الأربعة الأولى زار مجمع «سيد الشهداء» أكثر من 76 ألفاً، فيما بلغ عدد زوار الدورة الأولى 142 ألفاً على امتداد عشرة أيام. هذه الزيادة مردّها إلى رمزيّة المكان، وتزايد الزخم الشعبي بعد الانتصار التاريخي الذي أحرزه الصيف الماضي. لمسنا تلك الحماسة، وذلك الزخم، لدى شبان كثر يزورون لأول مرة معرضاً للكتاب. ويراهن كثيرون على أن هذا الانفتاح على اتجاهات وإصدارات شتّى، من شأنه أن يخلق حالة من الازدهار الصحي الذي سيخدم التعددية وتطوّر الذهنيات، في المحصلة الأخيرة.
    مسوؤل النشاطات في المعرض الدكتور علي الحاج حسن لفت إلى تنوّعها، وأكد أن كل دار أُعطيت الحق والحرية في تنظيم ما تريده من ندوات وتواقيع كتب... كما عملت «جمعية المعارف» من خلال لجانها على تنويع عناوين الندوات، بعد استشارة أهل الاختصاص.
    قد لا يكون أهل الاختصاص المشار إليهم، أدباء ومفكرين ومثقفين وفنانين من مشارب سياسية وفكرية مختلفة... لكن كم عدد التظاهرات الكبرى في لبنان التي تتسع اليوم للرأي الآخر، وتشركه في أخذ القرار؟ ما همّ إذا كانت طبيعة المدينة، وحال النشر في لبنان لا تتسعان لمعارض كتب متعددة؟ معرض الضاحية خرج من قمقم «الهامشيّة» و«الفئويّة»، وطموحه أن يصبح معرضاً رئيسياً للكتاب. أن يحتل مكانة مميزة على الساحة الثقافية اللبنانية والعربية... ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة!