بغداد ـــ سعد هادي
  • ماذا تغيّر بعد أربع سنوات على سقوط بغداد؟

    كيف تقوم ثقافة عراقيّة جديدة، في زمن الحروب الأهليّة والأحلام المجهضة؟ وأين يقف المثقفون بعد أن أسقط الاحتلال أقنعة كثيرين منهم، فيما يواصل سرطان الطائفيّة نخر الوعي الجماعي في بلد بدر شاكر السيّاب؟

    في الأيام الأولى لسقوط بغداد، وزّع جنود الاحتلال الأميركي منشورات تدّعي بأنّها مجلات. إلا أنّ أبسط ما يمكن أن توصف به هو أنّها تحتقر العقل العراقي، أو أنّ مَن حرّرها لا يعرف شيئاً عن تاريخ هذا البلد. إذ كانت تتضمن توجيهات وتعليقات بلغة ركيكة ترافقها رسوم لمبتدئين، تتعامل مع العراقيين على أنّهم شعب بدائي سيقوم الأميركيون بإعادتهم الى مدارج الحضارة.
    خلال تلك الأيام، تعرّض المتحف العراقي ومتاحف أخرى للنهب، فيما أُحرقت الصالات الفنّية، ودُمّرت المكتبات والمؤسسات الثقافية... وبيعت على الأرصفة ـــ وبأسعار بخسة ـــ وثائق مكتوبة ومصوّرة من أرشيف الدولة العراقية، ومخطوطات ولوحات وقطع أثرية. وفي اجتماع شهير استُدعي إليه مسؤولو الأجهزة الإعلامية والثقافية خلال حكم البعث، قال ضابط أميركي للحضور رداً على سؤال أحدهم: «الثقافة ليست من أولوياتنا، لقد اصطدنا فيلاً وعلينا أن نأكله ببطء بالشوكة والسكين».
    اشتهرت تلك العبارة بين المثقفين العراقيين، وأدركوا أنّ الاحتلال سيستغرق زمناً طويلاً... وأنّ الحلم بثقافة جديدة صار بعيداً بل أقرب إلى الخيال. أحد الحاضرين في ذاك الاجتماع ذكر أنّ معظم من شاهدهم في أروقة القصر الجمهوري ـــ الذي تحوّل في ما بعد الى المنطقة الخضراء ـــ كانوا من رجال الدين صغار السن، وكان معظمهم يتحدث الإنكليزية بلكنة فارسية. رجال الدين هؤلاء انتشروا في الأيام التالية في كل مفاصل الحياة، انبثقوا فجأة من لا مكان. من أين أتوا بهذه الأعداد الغفيرة؟ وهل العراق يحتاج إليهم في مرحلة يُنتظر أن تكون ديموقراطية؟
    لنقل أيضاً إنّ كثراً من المثقفين الذين كانوا معارضين لنظام البعث، عادوا بعد الاحتلال يحملون أحلاماً ومشاريع أيضاً. وكان بعضهم يرافق جيش الاحتلال كمترجم (!) وخلال الأشهر التالية عادت المؤسسات الثقافية الرسمية، وأصبحت ميداناً لصراع ـــ كان نظرياً في السابق ـــ بين مثقفي الداخل ومثقفي الخارج. ولعلّ هذا الصراع سيستمرّ طويلاً، بأشكال مختلفة، ما دامت الهجرات مستمرة.
    وُصم الذين ظلوا مقيمين في العراق بأنّهم من بقايا النظام السابق. أما الذين عادوا بعد إسقاطه فكانوا ذوي حظوة في البداية. وبينما اندمج بعضهم في التركيبة الجديدة بسرعة، عاد آخرون الى منافيهم نادمين أو يائسين من أي إمكان لإحداث تحول جوهري على أي صعيد. لقد دخلت الثقافة في لعبة التوازنات، كانت وزارة الثقافة (كواجهة تتمظهر من خلالها الفعاليات الثقافية)، في الحكومة الأولى والثانية بعد الاحتلال، من نصيب الشيوعيين... إنما من خلال وزير محسوب على الشيعة طائفياً. أما في الحكومتين التاليتين فكان سنياً: ضابط شرطة متقاعد، ثم إمام جامع في حكومة المالكي الحالية. تدريجاً، وبسب الظروف الأمنية المتدهورة باستمرار، انحسرت النشاطات الثقافية: صار أغلبها يقام نهاراً، بروّاد قليلين وبوجوه متكررة، كثير منها يختزن نزعات طائفية... أو يعكس التوترات بين الأطراف المتصارعة. أما المنظمات الثقافية خارج الإطار الرسمي، فعاد اليها الحرس القديم بأقنعة جديدة، او استُوليَ عليها بقوة السلاح. فإذا كانت الميليشيات موجودة في الشارع، فلا بأس من استخدامها في الصراع على الكراسي الثقافية.
    الفوضى التي تشهدها الثقافة هي انعكاس للفوضى العامة التي يعيشها البلد. المثقفون انقسموا على أنفسهم، لجأوا الى السلطة القائمة في كثير من الأحيان لحل مشاكلهم. عاد المشهد المألوف أيام كان صدام يستقبل شعراء وكتاباً وفنانين ويلقي عليهم محاضرات طويلة، ويتلقى منهم المديح على صواب آرائه ورجاحة عقله. السياسي تغيّر، لكن المثقف ما زال يصغي ويؤيد ويتلقى الهبات.
    ما الذي تغير إذاً، بعد أكثر من أربع سنوات على احتلال العراق؟ هل انهارت الثقافة العراقية، بعدما فقدت البنى التحتية التي كانت تحتضنها المؤسسة الرسميّة في «العهد البائد»؟ إلى أي مدى يمكننا أن نعتبر أن «المثقف» بشكل عام انكشف، وبانت للملأ هشاشة وعيه التي كان يغطيها بمعارضته أو موالاته للنظام السابق؟
    يرى الشاعر فاروق يوسف أنّ احتلال العراق كان فضيحة للثقافة العراقية وللمثقفين. يقول:« إنّهم طائفيون. كانوا شيوعيين، كانوا قوميين، كانوا علمانيين. إلا أنّ تجربة الاحتلال وضعتهم في مكانهم الحقيقي، وكشفت عوراتهم. في المقابل، هناك من سوّلت له نفسه الضعيفة والمريضة العمل مع المحتل. أخلاقياً، ما هي الصفة التي تُطلق على من يعمل في خدمة غزاة بلده؟ هل نحتاج الى ابتكار لغة جديدة؟ هل يحتاج الأمر الى فتوى؟ هناك اليوم مئات من المثقفين العراقيين يعملون في الدوائر التابعة للبنتاغون والاستخبارات الأميركية وماكينة الإعلام الأميركي. هم في الحقيقة فارقوا مفهوم الوطنية، لينحازوا الى مفاهيم مضادة للأخلاق والقيم الإنسانية والوطنية».
    فيما يرى خالد السلطاني، الباحث في تاريخ العمارة، أنّ آفاقاً جديدة انفتحت، وآمالاً في تغيير حقيقي وجذري طاولت جميع مناحي الحياة بعد إسقاط نظام البعث، وأزالت عنها مختلف المحرّمات التي عمل النظام الشمولي على ترسيخها. ويقول: «أفضى هذا الأمر إلى تجمّع قوى الردة والظلام والجهل والأصولية التي سخّرت كلّ إمكاناتها لإفشال هذه التجربة العراقية. ونرى ذلك اليوم في مشاهد القتل العشوائي وموجات الإرهاب العاتية التي تستهدف العراقيين وآمالهم».
    الروائي وارد بدر السالم يرى أنّ أربع سنوات لا تكفي لتشكيل مشهد ثقافي متكامل، في ظروف محتدمة ومتداخلة تفتقر إلى الحرية الثقافية وتقاليد القبول بالرأي الآخر. يقول: «هناك محاولة لتهميش الصوت الثقافي وجرّه الى مشاغل يومية، ليس أقلها الانشغال في مستنقع الدم. وكل ذلك لحساب الصوت السياسي المتناحر الذي كشف عن جهل فظيع في آليات تعامله مع المشكلة العراقية».
    أما الكاتب والأكاديمي لؤي حمزة عباس، فيعتقد أنّ الارتباط القسري بين الثقافي والسياسي في العراق، حافظ على تبعيّة الثقافة لمؤسسة السلطة، وهي تعيش عقوداً من مغامرة سياسية خلّفت الكثير من الشقوق في جدار البيت العراقي، وفكّكت الهوية، وأربكت الإنسان. إنّ سقوط سلطة البعث التي تجذّرت في مفاصل الحياة العراقية، أثّر أيضاً في الثقافة التي عاشت انفصالات قسرية بين هامش ومتن، وداخل وخارج، ومركز وأطراف. مشكلة ثقافتنا مشكلة سياسية بالأساس، وهي مشكلة حياتنا التي لم تجد خلال أكثر من نصف قرن منفذاً آمناً للممارسة والتعبير.