أربيل ــ وائل عبد الفتاح
  • يومَ حام شبح صدّام حول ضيوف فخري كريم

    الطريق إلى أربيل محفوفة بالفخاخ السياسية والإيديولوجيّة... و«أسبوع المدى الثقافي» الذي استقطب مئات المثقفين والأدباء والإعلاميين العرب، أُقيم برعاية نظام حفرت طريقه الدبابة الأميركية. إنها ثقافة الحشد التي تعتبر أنّ إسقاط «الشخص» يمكن أن يحدث تغييراً حقيقيا...ً

    هل نحن في العراق؟ لم يكن السؤال سهلاً. الخطر من اللحظة الأولى لمغادرة القاهرة، والسؤال مثير للدهشة: ذاهب إلى أين؟ تزداد الدهشة مع الإجابة: «كردستان». وصلنا مطار عمّان الدولي ونحن نلهث: طائرة أربيل تقلع بعد ثلاثين دقيقة.
    أربيل؟ كان كل مَن يسمع الاسم ينظر في وجوهنا. نحن مجموعة من أهل الصحافة والسينما. ولم يكن الاسم معروفاً بالنسبة إلينا كثيراً. ولم يتوقّع أحد أن تكون وجهتنا كردستان. الاسم له رنّة قديمة. الخيال يتحرّك في اتجاه معارك وفتوحات وغزوات المسلمين لبلاد مُحي اسمها من الوجود. كأننا أردنا بتكرار الاسم أن ننسى أنّنا في الطريق إلى العراق... فابتكرنا من البداية اسماً لطيفاً للرحلة له إيقاع أدبي وهو الطريق الى أربيل.
    إذاً، نحن نتوجّه ضاحكين الى مقر القنبلة المشتعلة في قلب الشرق الأوسط... العراق. ثم تخطر فكرة: كردستان هادئة! ربما أراحتنا الفكرة قليلاً، وهي أنّنا في الطريق الى جزيرة الأمان والطمأنينة. لكنها العراق. وهذه هي كردستان نسافر إليها بدعوة من «أسبوع المدى الثقافي» الذي يقيم مهرجانه الخامس (الثاني في العراق بعد الاحتلال). مديره هو فخري كريم الذي يعيش الآن بين بغداد وأربيل بعد سنوات في المنافي هرباً من نظام صدام، وسنوات أخرى من الجدل حول أدواره السياسية والثقافية قبل السقوط المدوّي لصدام وبعده... فخري كريم صانع جسور بين العراق ومجموعات مثقفين (أغلبها من اليسار) في العالم العربي، وبين مثقفي اليسار القديم في العراق (تربية الحزب الشيوعي) ومثقفي الـ«نيو لوك» العربي. أحدهم يتمتع بتفاهة مثيرة للحسد، حامل لقب الدكتور ويتصدّر الاحتفالات كنجم ثقافي فيما هو يتحدث بلغة منادي السيارات. الرجل قال بوقاحة يُحسد عليها: «دعونا نحتفل بـ9 نيسان/أبريل المجيد»، أي إنّه يريد اعتبار يوم سيطرة أميركا على بغداد لحظةً مجيدةً. وهو في ذلك لا يشبه سوى أيتام الديكتاتور الذين اعتبروا صدام بطل الأمة العربية... لمجرد أنّ أميركا سمحت بإعدامه بطريقة همجية. هما وجهان لعملة واحدة. ونحن ضائعون بين وجهيْ العملة. غرباء عن الفريقين أصحاب الأصوات العالية.
    والمربك أكثر هو أنّ الرحلة كلّها برعاية نظام حفرت طريقه الدبابة الأميركية. هل نرفض؟ وهل هناك وسيلة أخرى للوجود في العراق الآن من دون مظلّة النظام والدبابة؟ هل نكتفي بالموقف المتشدد ونقطع علاقتنا ببلاد الرافدين... ونترك المحتل ينفرد بها وحيدة؟ الأسئلة محيّرة، تضعك أمام خيارات راديكالية، وتاريخ طويل يبني مواقفه على الرفض والمقاطعة. لا بد مرةً من كسر الطوق وخوض التجربة، حتى لو انفجرت في الوعي مثل لغم غير مرصود في أرض مفخّخة.
    من اللحظة الأولى، هناك اختيار قاسٍ بين السفر الى العراق ومقاطعته، كما حدث مع مثقفي فلسطين 1948، على اعتبار أنّهم يحملون جوازات سفر إسرائيلية. اختيار بين المحتل والإرهابي. بين الاستسلام والعمليات الانتحارية. بين بوش وصدام.
    لا طريق ثالث. ولا مساحة اختيار. وهذا سرّ المأزق الذي لم يستطع «أسبوع المدى» التخلّص منه. ولم تكن مصادفة تماماً أن يقوم بعضهم بالخلط بين «المدى» في عهد «الحريّة الأميركية»، و«المربد» الذي اشتهر في «العهد البائد»، أيام مهرجانات صدام الشهيرة التي كانت تبذخ في سبيل حشد المثقفين والأدباء بأعداد صخمة، فقط من أجل الترويج للنظام البعثي الدموي. صورة صدام لم تكن غائبة عن «المدى»، لا لأنه كان حائط لعنات للجميع هنا فقط... بل لأن المزاج المصاحب لمهرجاناته كان مخيّماً على احتفاليّة فخري كريم! استعراض الإمكانات في دعوة عدد ضخم من الضيوف (يراوح عددهم بين 700 و900 شخص) احتلّوا كل فنادق المدينة، وناقشوا بعض المسائل بسرعة شديدة، كأنّهم في مهمة لا يتوقعها أحد. العناوين كبيرة: مستقبل الثقافة العربية والإصلاح الديني. وربما كانت الندوات المتخصصة في الشأن العراقي أكثر فائدة... لكنّ الهدف الأساسي من تلك الضجّة، كان رسم صورة باذخة تحاول محو الصورة القديمة... إلا أنّها جاءت لتؤكّدها! كان حضور الرئيس جلال طالباني لطيفاً. صورة مختلفة عن جنرالات الديكتاتورية العربية. ساخر ويتكلم عن الثقافة كواحد من أهلها. لكنّ ضجيج الاحتفال وثقافة الحشد المهيمنة فرضا عليه صورة صدام. بعض المثقفين العراقيين وقفوا ليرفعوا طلباتهم، وينادوا بدعم مالي وحل بعض المشاكل. من بينهم ضيفة عراقية احتجّت على سياسة المنح والهبات للمثقفين أو المبدعين المحتاجين في العراق، بقرار شخصي! وقالت إنّه «يذكّرنا بما كان يحدث في عصر الديكتاتور. نحن نريد دولة مؤسسات لا دولة هبات».
    وردّ عليها طالباني: «نحن نحاول أن نقيم دولة مؤسسات، لكنّ هناك أوضاعاً لا تحتمل الانتظار حتى تقوم دولة المؤسسات بإصلاحها، فأقررها فوراً ولا أفعل ذلك من جيبي الخاص، إذ هناك مخصصات لرئيس الجمهورية تقدر بحوالى مليون دولار شهرياً أحلّ بها بعضاً من هذه المشاكل، وتراقبني فيها الأجهزة المالية».
    في الحالتين، صفّق العراقيون طويلاً. هي ثقافة الحشد التي تتخيّل أنّ مجرد تغيير الشخص، يمكن أن يحدث تغييراً حقيقياً.
    أسبوع «المدى» (29/4 ــ 5/5/2007) ربما كان في النيّات محاولة إعلان للوجود، ولمصالحة بين الثقافتين العربية والكردية. لكنّه إعلان فخم لفضاء فارغ، ولخوف من إعادة تصنيع صورة الديكتاتور واستعراضاته الثقافية المثيرة للرثاء الآن. لم يطلب أحد تمجيد صورة الحكام الجدد. وكانت هناك ديموقراطية في استقبال الآراء المعارضة. لكنّ ثقافة الحشد كانت سائدة. لم تدع أفكاراً جديدة تتسرّب في ظل الهرولة في اتجاه تعبئة المنصّات بأسماء ومتحدثين، ليس هناك مجال لعرض أفكارهم ولا لمناقشتها. وإنّ التجاور بين الأفكار لم تكن حصيلته أكثر من صفر في معظم الأحيان. ولم تبق سوى الانطباعات الفردية عن المدينة وناسها.
    أربيل هي واحدة من أقدم مدن العالم واسمها له أكثر من معنى: مدينة الآلهة الأربعة، وهي تسمية محفورة على المعابد الأشورية. وهناك معنى آخر: المدينة المقدسة على رنة اسم «أورشليم» نفسها. لكن في اللغة الكردية اسمها «هه ولير». وتفسير الاسم في أحد الكتب هو «مدينة الشمس». إنها عاصمة كردستان. وكانت العاصمة الصيفية للعراق، قبل أن يقرّر صدام حسين أن يضع الأكراد على رأس قائمة ضحايا مذابحه التي لا تُنسى.
    لا تشعرك أربيل بأنّها مدينة مأساة. لكنّها مدينة تصحو بعد إغفاءة طويلة. تتمدد خارج محيطها. وتجمع ثقافات هاربة من جحيم الإرهاب والاحتلال في جنوب العراق ووسطه. أصبحت مجمعاً!