القاهرة ـ محمد خير
  • القاهرة غنّت لها: إنت وبسّ اللي حبيبي

    قبل أيام استقبلت الأوبرا المصريّة ضيفاً نادراً، قد لا يعرفه جيل الفيديو كليب. إنّها المطربة الكبيرة فايزة أحمد التي كرمتها القاهرة بعد ٢٤ سنة على رحيلها. عودة إلى المسيرة المضطربة التي بدأت من بيروت ودمشق وحلب، وتركت بصماتها الواضحة على ذاكرة الطرب الأصيل

    لماذا اختارت دار الأوبرا المصرية أن تكرّم فايزة أحمد (1930ــــــ1983) في هذا التوقيت بالذات؟ المطربة العربية الكبيرة رحلت قبل 24 عاماً، فلماذا لم تنتظر الأوبرا يوبيلها الفضي بعد عام واحد، بل لماذا لم تنتظر على الأقل حتى 19 أيلول (سبتمبر) يوم رحيلها؟ ومثلما بدا التوقيت مرتجلاً، جاء التكريم فجائياً وعشوائياً الأسبوع الماضي، في العاصمة المصريّة... تعاقب مغنو دار الاوبرا على المسرح، وأدّوا أغانيها المشهورة. كأنّ هناك من تذكّر فجأة أنّه كان هناك مطربة عظيمة، رحلت عن دنيانا منذ زمن غير محدد، فقال هيا نكرّمها!
    مهما كان من أمر، مجرد استحضـــــــــار هذه القامة الفريدة بحد ذاته مبادرة مشكورة... وفي الواقع، فإن هذا الاضـــــــــــطراب، أو ذاك التردّد، كانا من العلامات الفــــــارقة التي ميّزت رحلة الـــــــــفـنانة التي اصطحبها إلى «أم الدنيا» الموسيقار الفلسطيني رياض البندك. سمعها تغني في أحد النوادي الدمشقية فعشق صوتها، تبناها ودربها على غناء الشعر. سافرت معه فــــــي منتصف الخــــــــمسيـــــــنيات إلى القاهرة، قــــــــابلت أحمد سعيد مدير إذاعة صـــــــــوت العرب. سجّلت في الإذاعة المصرية موشّحات من ألحان البندك... رواية جميلة؟
    في الواقع هناك رواية مخـــــــــتـــــــــلفة تماماً يقسم أصحابها على أنّ من درّب فايزة على الغناء هو زوجها الأوّل الفنان السوري عمر النعامي. وقدّمها إلى الإذاعة المصرية الإعلامي صلاح زكي في أغنية «دموع المحبة» للملحن محمد رياض.
    على كل حال، تلتقي الروايتان عند نقطة منتصف الخمسينيات، عندما بدأت فايزة شقّ طريقها في المحروسة، مسيرة خصبة حصيلتها قرابة 400 أغنية إذاعية وتلفزيونية، وستة أفلام سينمائية، إضافة إلى أوبريت إذاعيّة واستعراض مسرحي واحدولدت فايـــــزة في بيروت. صغيرة كانت تؤدي أغنــــــــيات ليلى مراد وأسمهان، وشجعتها والدتها على الغناء، فأحــــــــضرت لـــــــها مدرساً ليلقّنها أصول الغناء، وقررت فايزة احتراف الغناء ولما تــــــــبلغ الحادية عشرة.
    عندما اقــــــــــفلت بوجهـــــــها أبواب الاذاعة اللبنانيّة، انتقلت إلى دمشق فحـلب... ومـــــــنهما إلى القــــــاهرة.
    كان ذلك في زمن صــــــــــــعود عبد الحليم حافظ، وكانت الـــــــــشابة الموهوبة مغرمة بألحان أغــــــــنيات العندليب. فعلت كل ما بوسعها للحصول على لحن من رفيق الدرب الحليمي آنذاك محمد الموجي، وكتب لها الكلمات مرســـــــــي جميل عزيز. هكذا، كانت أغنية «أنا قلبي إليك ميال»، التي تعتبر بوابتها الحقيقية إلى الشهرة... علماً بأنّها غــــــــنّت قبلها من ألحان بليغ حمدي ومحمود الشريف.
    وستتلوها «يمّا القمر عالباب» و«بيت العزّ» من ألحان الموجي. ولحّن لها كمال الطويل أغنيات خالدة مثل «ياما قلبي مال»، «النار الـــــــــقايدة»، «أنــــــا اللي تنساني»...
    الشهرة التي حازتها الشابة صغيرة أربكتها، لذا أمضت عمرها تصعد وتهبط في دوامة النجاح. جرّبت السينما واقتحمت الراديو وشركات الاسطوانات، كانت ثمة قضية تشغلها: من هي حقاً فايزة أحمد؟ هل هي الصوت الأقرب في إمكاناته إلى أم كلثوم؟ أم أنها الشابة التي «من واجبها» منافسة شادية في أفلامـــــــها؟ هل ستـــــــــكمل فايزة المشوار الذي توقــــــفــــــــت في منتصفه ليلى مراد؟ أم أنها مجرد صوت فائق الصحة والكمال، واضح اللفظ، لكنّه مجرد مترجم لألحان الموسيقيين الكبار.؟
    إذا استعدنا مثلاً واحدة من أعظم أغنياتها «قالولي هان الود عليه»، يشعر صاحب الأذن المتنبّهة بأنّه يستمع إلى عبد الوهاب لا إلى فايزة. عبد الوهاب طبعاً هو ملحّن الأغنية التي كتب كلماتها أحمد رامي. وربما كان ذلك السبب في نجاح الأغنية بهذا الشكل الجنوني عندما غنّتها لاحقاً المغربية المعتزلة سمية القيصر.
    وفي أغنيتها الجميلة «ست الحبايب» من كلمات حسين السيد، يبدو عبد الوهاب مرةً أخرى حاضراً «بصوته» في أذن المستمع. تلك الأغنية التي يراها كثيرون أجمل ما غُنِّي للأم المصرية إطلاقاً.
    على كل حال، يبدو أنّ الأم كانت فاتحة خير على فايزة أحمد التي حقّقت كل أغانيها التي تخاطب الأمهات نجاحاً مذهلاً، فمن يمكن أن ينسى صوت فايــــــــزة في «يمّا القمر ع الباب» للموجي؟ وهي كانت باكورة تعاملها مع عبد الرحمن الأبنودي. وهو الذي كتب لها أيضاً «يمّه يا هوايا يمّه».
    بعد سنوات طويلة، غـــــــنّت فايزة من ألحان محمد سلطان وكلمات مجدي نجيب «آخد حبيبي يانا يامّه». ومحمد ســــــــلطان لم يكن مجرد ملحن مرّ في حــــــــياة فــــــــايزة، بـل هو الزوج الذي قضت معه ســــــــنين طويلة، وألّفا ثنائياً رآه بعــــضهم ضاراً بتجربة فايزة نـــــــــتيجة احتكار زوجها لصوتها.
    لكنّ المؤكد أنّ تأثير سلطان على تجربة فايزة كان تأثيراً مجدِّداً. معه سبقت بنات جيلها إلى الأغنية السريعة القصيرة «بمقاييس زمنها»، فقدما معاً «دنيا جديدة علينا سعيدة»، و«على وش القمر»، «حبيتك وبداري عليك». وقدّما أيضاً ألحاناً شرقية تقليدية منها «مال عليَّ مال»، و«يا طير يا شوق»، و«غريب يا زمان»، و«العيون الكواحل».
    خاضت فايزة أحمد مجال السينما، إذ شاركت في أفلام عدّة أولها «تمر حنة»، ثم «المليونير الفقير»، و«امسك حرامي» و«ليلى بنت الشاطئ»... ولعل أنجح أدوارها في فيلم «أنا وبناتي». أما آخر أفلامها فهو «منتهى الفرح»... لم تبرهن فايزة، على الأرجح، أي موهبة تمثيلية في أدوارها القليلة. لكنّها تركت عدداً من أجمل أغاني السينما، أبرزها أغنية «تمر حنة» للموجي في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، و«قلبي عليك» و«يا حلاوتك يا جمالك» ألحان لفريد الأطرش، «بتسأل ليه عليا» لفؤاد حلمي...
    حملت أغنيتها الأخيرة «لا يا روح قلبي» شؤماً غريباً. توفي رياض السنباطي قبل أن ينتهي من تلحينها، فأكمل لحنها نجله أحمد، لكن كاتب الكلمات حسين السيد كان قد توفي... وما لبثت فايزة أن رحلت بعد تقديم الأغنية مباشرة.