strong>محمد الأسواني
هل يجوز أن تخصّص محطّة إخبارية جميع برامجها لمناقشة حدث واحد؟ هـذا ما يحصل الـيوم في سوق مزدحم بالقنوات المتخصّصة التي وجدت نفسها فجأةً أمام وحش اسمه... ساعات البثّ

احتدمت المواجهة بين الضيفين المصريين الجالسين في الاستوديو. لكن الشاشة فصلت بينهما، بمسافة تحتلّها من قطر مذيعة «الجزيرة» التونسية ليلى الشايب. مناسبة اللقاء كانت إبطال محكمة مصرية لقرار محكمة أخرى، أبطلت قرار رئيس الجمهورية، بتحويل قادة من الإخوان المسلمين إلى محاكمة عسكرية. كان الأمر فعلاً بهذا التعقيد: إبطال لإبطال أبطل قراراً جمهورياً، وأعاد الوضع إلى ما كان عليه. لذا، كان من البديهي أن تستضيف «الجزيرة» ضيفاً إخوانياً وآخر حكومياً. أما المشكلة فكمنت عند الضيف الإخواني أحمد أبو بركة الذي لم يكن يجيد لغة الناس، على رغم أنّه نائب برلماني. تصوّر أنه يقف أمام محكمة مماثلة لتلك التي ترافع أمامها في اليوم نفسه، فقرر أن ينتصر مساءً في المعركة التي خسرها صباحاً... وأغرق المشاهدين بالحجج القانونية والأدلة الجنائية من نوعية أنّ المادة الرقم كذا من القانون كذا للسنة الفلانية، تتعارض مع التعديل الأخير للقانونالعلاّني، ما يوجب قبول الطعن المقدّم من المدّعى عليه. أما الضيف الثاني، فهو الحكومي مصطفى علوي الذي صنّف بين المسؤولين عن محرقة بني سويف حيث قتل أكثر من 40 فناناً وناقداً مسرحياً مصرياً قبل عامين تقريباً، وأصدرت المحكمة قراراً بسجنه عشر سنوات، قبل أن تبرّئه محكمة الدرجة الثانية. بدا هذا الأخير في برنامج «الجزيرة» شبه تائه، غير منتبه تماماً لما يقوله الضيف الإخواني، يتلو دفاعات الحكوميين التقليدية الباهتة. أما ليلى الشايب ففقدت خيط الحوار بعد ثلاث دقائق من بدايته، وغرقت في صراع الحجج القانونيّة، فأصبحت توجّه للضيفين أسئلة أجابا عنها قبلاً، وتنسى محاور أخرى لم تسأل عنها قط.
هل هناك ثمّة ما استفاد منه المشاهد في هذه الحلقة؟ الأغلب لا. لكنّ السؤال الأهم هو: ما اسم البرنامج الذي تندرج في خانته الحلقة؟ «ما وراء الخبر» أو «أكثر من رأي»؟ أو برنامج خاص عن المواجهة الحكومية الإخوانية الأزلية في مصر؟ أو ربما حلقة خاصة من برنامج «الاتجاه المعاكس»، لا يقدّمها ــــ لظروف طارئة ــــ فيصل القاسم؟
لا هذا ولا ذاك ولا تلك... ما سبق هو مجرّد تغطية تضمّنتها النشرة الإخبارية المسائية المطوّلة التي تطلق عليها قناة «الجزيرة» «حصاد اليوم». وتتناول كل مساء حدثاً بارزاً، وقع خلال النهار، لتُلقي عليه الضوء، ثم تتيح النقاش حوله. ما الفارق إذاً بين هذه النشرة، وبين ما يقدّمه على الفضائية نفسها برنامج «ما وراء الخبر»؟ لا شيء...
وحش جائع
هذا «الانفجار» الإعلامي الإخباري الذي يميّز العالم العربي اليوم، خلق وحشاً جائعاً ــــ وتنافسياً ــــ اسمه ساعات البثّ. ولأنّ الفضائيات الإخبارية لا تملك ترف ملء ساعات إرسالها بالأفلام والأغاني، فقد حلّ بديلاً، أثار في البداية حماسة جمهور عربي لم يعتد إلا الرأي الواحد: البديل هو برامج الـ«توك شو السياسي» التي تتنكّر وراء مسمى «التحليل الإخباري»، وتدّعي الكثير من العمق، فتستضيف ضيوفاً تسيطر الجدية البالغة على معظمهم، وتميّز الطرافة بعضهم الآخر. ثم اخترعت المحطات الفضائية لضيوفها مسمّيات فخمة جذلة تتناسب مع الأوضاع الخطيرة التي يضطلعون بمهمة «تحليلها»، وتفسيرها للجمهور العادي الذي قد لا يستطيع مواصلة حياته بعيداً من هذه التحليلات. هكذا ظهرت ألقاب: «خبير استراتيجي»، «محلل عسكري»، «متخصص في الغرب أفريقيات»، و«مدرك لشؤون الجماعات الإسلامية»، حاصل على دكتوراه في منطقة شبرا. وكنوع من تبادل المنفعة، قريب من التمثيل الضوئي، يعيش كل من هؤلاء الخبراء وتلك البرامج بعضهم على بعض، يزدادون بتلاقحهم عدداً وعدة. وهكذا تتعدد مسمّيات البرامج أيضاً: «بقعة الضوء»، «تحت الأضواء»، «أضواء على الأحداث» وغيرها...
أسطوانة مكرّرة
الأغرب أن تخصّص القناة برامجها كلّها لحدث واحد. هذا ما يحصل مثلاً عند سقوط بعض الصحافيين في بغداد ضحايا مهنتهم. قررت قناة «العربية» مناقشة الخبر، فتعرّضت له أولاً سهير القيسي في برنامج «من العراق»، وهذا طبيعي. ثم إذا بالخبر نفسه يمثّل محور حلقة برنامج «تحت الضوء» التي استضاف فيها مهنّد الخطيب، أمين اتحاد الصحافيين العرب صلاح حافظ. في وقت متزامن، استضافت جيزيل خوري في برنامجها «بالعربي» جواد كاظم، مراسل «العربية» السابق في بغداد ليتحدّث أيضاً عن المخاطر التي تحدّق بأهل المهنة في العراق. ما هو البرنامج الوحيد في «العربية» الذي لم يتعرّض لمشكلة الصحافيين في العراق؟ بالضبط، إنه برنامج «السلطة الرابعة»!
ما الفارق إذاً في قناة «العربية» بين «نقطة نظام» و«بصراحة»، أو «مقابلة خاصة» و«ضيف وحوار»؟ وأين تكمن أوجه الاختلاف بين «بلا حدود» و «لقاء خاص» على «الجزيرة»؟ ما الفارق بين «حتى الساعة» و«العالم الآن» على «الحرة» مساءً، أو حتى البرامج التي تخصصها مساءً الفضائيات اللبنانية لمناقشة تشنجّات الوضع الداخلي؟ ألم يصبح برنامج الـ«توك شو» واحداً يُكرّر كل يوم ــــ مع الضيوف أنفسهم ووجهات النظر عينها ــــ مونولوغاً طويلاً، لا يريد أن ينتهي.