حسين بن حمزة
في مجموعته «لا شيء من كل هذا» (دار الآداب)، يواصل شوقي بزيع لعبة الخسارة. يعزّي نفسه بالرثاء الذي يتخذه «غرضاً شعرياً» على طريقة أسلافه القدامى... أم تراه ذريعة أدبيّة، لمواصلة التجوال في المعاجم واستدراج المفردات إلى كمائن الصور؟


يحرص الشعراء عادة على وجود مزاج شبه موحّد للقصائد في أيٍّ من مجموعاتهم الشعرية. ويهدفون من وراء ذلك إلى توفير قراءة سلسة للقارئ، كي يكون انتقاله من قصيدة إلى أخرى محكوماً بالمزاج الذي يقترحه الشاعر.
ولعل «الرثاء» هو المفردة المناسبة لتحديد الرابط الخفي بين أغلب قصائد مجموعة شوقي بزيع الجديدة التي تحمل عنوان «لا شيء من كل هذا» (دار الآداب). إبرة الرثاء تجمع قماشة القصائد كلّها بخيط واحد. الرثاء حاضر إما مباشرة، فتبدأ مثلاً القصيدة من لحظة الموت والغياب النهائي، كما هي الحال في قصيدة رثاء الجدة: «وما أنا إلا فلذة من خيالها» و«خلود تنجح في امتحان الموت»، وإما بشكل غير مباشر وبمعانٍ مقلوبة أو منظور إليها من زوايا نظر مختلفة، حيث يرثي الشاعر ما هو مستمر في فقدانه ولم يبقَ منه سوى قليله أو ذكراه، كما هي الحال في قصائد: «الخمسون» و«على باب كلية التربية» و«خلف دموع الشتاءات»، إضافة إلى رثاء جديد، يمكن القول إنّه من ابتكار الشاعر نفسه، كما هي حال قصيدة «الأعمال الكاملة»، حين يتحدث عن فعل الكتابة كعملية خسارة متواصلة، و«ماذا تستطيع الكتابة أن تفعل» التي تثير مسألة عجز الكتابة في مواجهة الحرب.
ولعلّ كثافة الرثاء في مجموعة بزيع تجعل منه غرضاً شعرياً مثل الأغراض الشعرية التي كانت تتوافر في قصائد شعراء العمود القدامى. لكنّ هذا الإيحاء، في الواقع، ليس الهدف الوحيد الذي يسعى الشاعر إلى تحقيقه. داخل هذه الممارسة، يمكن ملامسة الاستثمارات المتنوعة التي يعمل عليها الشاعر في سبيل خلق طبقات متعددة للمعنى. وتمكن، كذلك، ملاحظة الخيارات والكيفيات الأسلوبية العديدة التي يستخدمها لرفع جودة كتابته. شوقي بزيع لا يكفّ عن تطوير تجربته الشعرية، وتجديد نبرته ورفدها بالمبتكر من الصور والاستعارات.
الرثاء الذي تخيّم مفرداته ومعانيه وإيحاءاته على أجواء المجموعة، ليس في النهاية، إلا حججاً وذرائع كي يتلذذ الشاعر بلعبته التي يتقنها، لعبة التجوال في المعاجم واستدراج المفردات إلى كمائن الصور. الرثاء والتذكر والوقوف على الأطلال واستعادة الطفولة. كل ذلك سيتحول، هنا إلى فن شعري.
لا يخفي بزيع ما تفعله الكتابة بصاحبها. بحسب صاحب «قمصان يوسف» (1996)، كلما امتلك الشاعر اللغة، خسر الحياة. القصيدة ما هي إلا اللجام الذي يتمسّك به الشاعر في رحلة خساراته المتواصلة. يُقال دوماً إنّ الكتابة فعل تعويض عن الحياة. كثيراً ما ردّد الكتاب والشعراء هذه المقولة في وصف ممارساتهم الإبداعية. شوقي بزيع يحدّد هذا المعنى داخل النص الشعري نفسه، لا في الأحاديث الجانبية التي تُثار حوله. وهذا ما يجده القارئ في قصيدة «الأعمال الكاملة» التي تؤرخ لعمل الشاعر وتكشف خساراته المتوالية بأسى بالغ: «كان لا بدّ كي يُدخِل النهر / في الشعر / أن يفقد النهر / لا بدّ أيضاً لكي يُدخِل الحبَّ / أن يفقد المرأة / المتشهّاة / والحلم أن يفقد الغفوة المطمئنة / والبيت أن يفقد العائلة / ومن حيث لا ينتبه / كان يُبهجه أن يخون المسمى / لكي يربح الاسم».
يعزّي الشاعر نفسه حين يكتشف أنّه رأى في الكتابة ما لم يره في تفجّر معنى الحياة الحقيقي، وأنّ كل ما فعله لم يكن إلا مقايضة هذه الحياة بـ«مفردات سقيمة»، وأنّه بكتابة القصائد إنما كان يخون الحياة. ثم يختم القصيدة بأنّ الشاعر يظل يكتب «حتى إذا أصبح العمر / مقبرةً من حروف / تراءى له الموت / في زيّ أعماله الكاملة». بهذا المعنى، الموت هو الوجه الآخر للخلود الذي يتوهّم الشاعر أنّه يصنعه بالكتابة. يُحسب لشوقي في هذه القصيدة، نجاحه في وضع مادة على هذا القدر من التفلسف إلى حيز شعري. بل وأكثر من ذلك، إلى حيز شعري مشيد بالإيقاع. القصيدة الإيقاعية، التي تستسلم غالباً بسرعة لتنامٍ غنائي وتهويم لغوي وكسل تخييلي، تتحول هنا إلى شعرية مرنة وقادرة على النهوض بحمولة فلسفية واستعارية شديدة الحيوية. الإيقاع هنا لا يشكّل سوى القشرة الخارجية للغة القصيدة. الشعر غائر وعميق على رغم الوضوح الذي تتصف به كتابة بزيع عموماً.
منذ مجموعته الخامسة «مرثية الغبار» (1992)، نحا بزيع إلى كتابة تعمل تحت سطح الكلمات. لم تتغير نبرته الشعرية في جوهرها. بقيت مخلصة للإيقاع والإنشاد وتدوير زوايا البلاغة. لكنّها راحت بالتدريج تتخفّف من الصوت العالي والصور المتوقعة والمعالجات الدراماتيكية. وباتت هذه النبرة أكثر قدرة على إخفاء إيقاعها المحكم، لمصلحة موسيقى تنبعث من أحشاء النص الشعري ودواخله. وهذا ما جعل المعنى نفسه يلين ويتعدد، وبات متفوقاً على الإيقاع وسيّداً له بعدما كان تابعاً في أغلب الاحيان.
يجد القارئ هذه النبرة المتخفّفة والمرنة في معظم قصائد المجموعة، إضافة إلى أنّ شوقي بزيع يكشف عن براعة في مقاربة ثيمة الرثاء بأكثر من طريقة، مستفيداً من تعدد مناسبات هذا الرثاء واختلافها، ومستثمراً، في الوقت عينه، معجماً شخصياً واسعاً.
في قصيدة «على باب كلية التربية»، يستعيد شبابه الضائع، وغربة جيل كامل في تلك الحقبة. لكنّ القصيدة لا تضحّي بمشاغلها كلها لمصلحة المناسبة. الشاعر يمزج الاثنين معاً: «كل شيء بدا مثلما كان / من قبلُ: / حزن المداخل / أعقاب فوضى النهارات / أفئدة العاشقين القدامى / التي تتفتّح كالعشب بين الممرات / حتى الهواء الذي ابيضَّ فوداه / تحت السقوف المسنَّة / ما زال يحفظ عن ظهر قلب / تهدّج صوتي على منبر الشعر». وتتجاور قصيدة «الخمسون» مع هذا النوع من الممارسة الشعرية التي تخلط الفلسفة بالحياة، وتقلّب المعاني على وجوهها الكثيرة، بحثاً عن لقى وكنوز شعرية مدفونة فيها. ولعل إقرار الشاعر بما تفعله سنوات العمر بالبشر، يسهم في بث هذه الفلسفة المخلوطة بالشعر في جسد القصيدة. لقد أبدى الشعر دوماً حساسية خاصة تجاه التقدّم في السن. حتى أنّ بعض الشعراء لم ينتظروا الخمسين كي يرثوا أنفسهم، ففعلوا ذلك في الأربعين والثلاثين وحتى العشرين.
مناسبات الرثاء تتعدّد في المجموعة. في قصيدة «تحت أي السقوف سأغفو إذن»، يقف شوقي بزيع على أطلال قريته التي دمرها الإسرائيليون في الحرب الأخيرة، ويكتب عن موت إحدى قريباته في قصيدة «خلود تنجح في امتحان الموت». الرثاء يحضر، كما قلنا، في أغلب قصائد الكتاب. لكنّه مجرد موضوع لممارسة شعرية يسعى شوقي بزيع إلى تطويرها باستمرار.