محمد شعير
وصفان وقصّة... وقائع من ذاكرته المثخنة يستعيدها الروائي والشاعر الإسباني المعروف خوان غويتيسولو في كتاب «عصافير تلوّث عشّها» الذي ترجمه الروائي المغربي عبد الكريم جلطي وصدر عن «دار آفاق» في القاهرة.
«غويتيسولو... وغد القلم» هكذا وصفه الناطق الرسمي باسم النـــــــــظام الإسباني في ستينيات القرن المنصرم. فيما قال مســـــــــــــؤول آخر «إنّ اسم غويتيسولو معروف في مخافر الشــــــــــــرطة أكثر منه في المكتبات». أمّا القـــــــــــصة فقد اكتـــــــــشف غويتيسولو الذي نُفي من إسبانيا عام 1956 لمعارضته نظام فرانكو، أنّ فريقاً من «ملائكة الحراسة» ذهب إلى مستودع دار النشر التي تنشر كتبــــــــه وقام بتفتيشها «للتأكد من أنّ كتاباتي المجرمة غير مخبأة، ما كان سيشكل بالنسبة إليهم جريــــــــمة مع سبق الإصرار والترصّد!».
الوصفان والقصّة ذكرهما صاحب «مبارزة في الجنة» ليدلّ على وضع الأدباء في مجتمعات تنظر إلى الأدب باعتباره فعلاً إجرامياً. ويحدث ذلك تقريباً في غالبية أصقاع الأرض، ولم يكن وضع الأدباء في إسبانيا ــــــ موطن الكاتب ــــــ استثناءً: «كانوا يقارنون باللصوص، بالخارجين على القانون، برجال العصابات، وكل المنغّصات في هذه المقولة الجنائية الشاسعة وغير المحدّدة التي تُسمّى خطراً اجتماعياً». الكتاب الذي يتضمن عدداً من المقالات عن فنّ الرواية، يبلور فيه كاتبه من خلال قراءاته وتجربته الإبداعية مفهوماً للحداثة التي تضرب بجذورها أعماق النصوص الأدبية العالمية القديمة والحديثة شرقاً وغرباً. وتتجاور في مقارناتها «ألف ليلة وليلة» بـ«دونكيشوت»، والنصوص الصوفية بروائع فلوبير وجويس وتوماس مان وبورخيس وكونديرا. فأساس الإبداع لدى غويتيسولو ــــــ وفق ما يرصد الناقد المغربي محمد برادة في مقدمة الكتاب ــــــ هو الحوار المفتوح الدائم، المنتهك مع الإبداعات القديمة والجديدة من دون فرض حدود ولا تحقيقات مدرسية.
والقراءة أيضاً هي مغامرة مفتوحة تُمارَس من خلالها حرية القبول والرفض، التماهي والتضاد عبر سيرورة تجري وراء سراب الأجوبة توحى بها عوالم نصية منسوجة بلغة هروب تلمح أكثر مما تؤكد، مستظلّةً دوماً بـ«حكمة اللايقين» التي تعلّمنا إياها الرواية المستحقّة لاسمها.
تدعيماً لهذه الفكرة، يقدم غويتيسولو أربع محاضرات عن رائعة ثرفانتس «دون كيشوت» مبرزاً فيها «ميزات التركيب الفني الجميل لهذه الرواية التي جعلت منها أفقاً لاجتهادات الكثير من الروائيين بعده، ولا سيما في ما يتعلق بتعدّد الرواة ومستويات اللغة، وإدماج الميتاسرد والخطاب ضمن نسيج الرواية نفسها». ولهذه الأسباب، يعدّ هذا النص الاستثنائي حجر الأساس لما يسميه غويتيسولو «شجرة الأدب».
ومن خلال هذا المصطلح، يمكن الحكم على الكاتب الجاد وكاتب «الدرجة الثانية». الأول ــــــ حسبما يقول غويتيسولو «سيواجه شجرة، لكنه سيتطلّع إلى تمديدها، لإغناء حياتها. وبقدر ما تكون هذه الشجرة باسقة يانعة، مرهفة متعددة الغصون، بقدر ما ستكبر إمكانات لعبه ومغامراته، وبقدر ما يتسع الحقل الذي سيباشر في داخله اكتشافاته وأسفاره. بينما يسهل التعرّف إلى كاتب الدرجة الثانية بمحاكاته الاختزالية وارتباطه بنموذج وتيار معين.
فإن الكاتب الذي يتطلع إلى ترك أثر أو خلق غصن للشجرة لن يخضع لأي تأثير خاص، لأنّ نهمه الأدبي سيمنعه من التوقف عند كاتب معين أو قالب وحيد».