دمشق ــ خليل صويلح
سعد الله ونوس وأبو خليل القباني مرة أخرى في مكان واحد، هل هي المصادفة أم محنة المثقف؟ بعدما استعاد صاحب «مغامرة رأس المملوك جابر» سيرة رائد المسرح العربي في مسرحيته «سهرة مع أبي خليل القباني» على خشبة مسرح الحمراء الدمشقي (1974)، يلتقيان ثانيةً في ظرف مختلف: لقد ضاقت جدران منزل المسرحي الراحل برفوف مكتبته، فقررت رفيقة دربه فايزة الشاويش إهداء محتويات المكتبة الغنية والنفيسة إلى المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق، كي تكون مرجعاً لطلاب المعهد. لكن إدارة المعهد اعتذرت عن قبول الهبة، بسبب عدم توافر مكان قادر على احتواء المكتبة كما ينبغي. وبعد رحلة بحث عن مكان مناسب يليق بتراث سعد الله ونوس، جرى اتفاق مع «مؤسسة جمعة الماجد» في الإمارات على اقتناء المكتبة، لكن فايزة الشاويش رفضت العرض المغري فجأة. تقول «حين صار الأمر جدياً، لم أتمالك نفسي. لم أستوعب فقداناً آخر، كأن سعد الله نفسه سيغادرني مجدّداً، سيذهب بعيداً وإلى الأبد، هكذا انسحبت في اللحظة الأخيرة». وتضيف: «لا يزال مكتبه كما غادره آخر مرة، حتى زجاجة الماء الأخيرة لا تزال قرب سريره. فكيف أستغني عن مكتبته؟».
في مطلع العام المقبل، سيحلّ سعد الله ونوس ضيفاً على بيت أبي خليل القباني بعد ترميمه، وستسمى إحدى قاعات هذا الفضاء المسرحي باسم صاحب «منمنمات تاريخية»، ضمن متحف يضم آثار المبدعين المسرحيين في سوريا. هكذا سيلتقي التلميذ بأبيه الروحي الذي طالما وجد فيه لحظة تنويرية مشرقة تختزل المسافة بينهما، بعد حياة صاخبة انتهت بنفي القباني وحرق مسرحه من قبل الظلاميين.
لكن أين نحن من تراث سعد الله ونــــــــــــوس (1941-1997)، بعــــــــــــد عشر سنوات على رحيله؟ وماذا يبقى منه للأجيال الآتيـــــــــــة؟ تعتـــــــــــرف فايزة الشاويش بأنّ التجارب الجديدة في المسرح السوري، لم تحقّق بصمة لافتة في مواصلة ما حاول ونوس تأسيسه. المسرح اليوم أسير اللافتات البـــــــــراقة وهشاشة الفكرة في غياب الأسئلة الجوهرية وتحولات الذائقة المسرحية. ولهذا، أطلقت الممثلة السورية التي واكبت الحقبة الذهبية للمسرح القومي، فرقة «مسرح الأمس» في محاولة لاستعادة مرحلة ازدهار المسرح السوري، وقــــــــــدمت الفرقة عرضاً بعنوان «الأيام المخمورة» وهو آخر نص كتبه المسرحي الراحل. وتستعد الفرقة لتقديم عرض آخر هو «طقوس الإشارات والتحولات». وتوضح الشاويش: «الفرقة لن تكتفي بتقديم نصوص سعد الله فقط، بل ستختار أي نص مسرحي آخر يتواءم مع مشاغل سعد الله الجمالية والفكريّة، وهواجسه المسرحية».
يرى المخرج العراقي باسم قهار الذي وقّع عرض «الأيام المخمورة» أنّ ونوس أحد القلائل الذين نجحوا في ترسيخ النص المسرحي العربي، في ظل شكوى دائمة حول «أزمة النص». وقد توغل عميقاً في تأريخ الواقع العربي بهزائمه المتكررة وتشريح بنية العقل العربي، في خطاب نقدي لاذع يحاور الجمهور العادي والنخبة في آن. ويلفت قهار إلى أنّ ونوس في نصوصه الأخيرة، وخصوصاً «الأيام المخمورة»، كان مفتوناً باللغة، ما استدعى عملاً تنقيبياً للقبض على جمرة الدراما والحراك السري للشخصيات داخل الكثافة اللغوية. النص يبدو للوهلة الأولى عصياً على التفكيك وترجمته مشهدياً على الخشبة، نظراً إلى تعدد الأماكن والشخصيات والنقلات الزمنية المفاجئة. ويتساءل الشاعر عادل محمود عن سرّ صرامة مسرح ونوس، وصخبه الإيديولوجي: «لم أقرأ نصاً واحداً لهذا المسرحي ينهض على قصة حب، كأنّه نسي في غمرة انشغاله بمسرح التسييس، أنّ قصة حب ما، مهما كانت عادية، هي في صلب المسرح السياسي». قد يكون ونوس استدرك هذه الثغرة متأخراً. في مسرحيته «أحلام شقية» (1995) التي كتبها خلال مرضه، تهتف بطلة المسرحية غادة: «أين الشعر في هذه الدنيا؟ لا الحلم ممكن، ولا التمنّي ممكن. لا شيء إلا الظلم والموت». وسيعترف ونوس لاحقاً بأنه كان يعيش أوهاماً على كل المستويات «كنت أفرض على نفسي نوعاً من الرقابة الذاتية، كما كنت أتوهّم تغييب الثانوي لصالح ما أعتبره قضايا مهمة».
من جهته، يجد فيصل دراج في مسرح ونوس «شهوة حارقة تود إصلاح العالم، وحزناً عميقاً على عالم يرفض الإصلاح». فيختار لمسرحيته «ملحمة السراب» (1996) نهاية فاجعة. إذ يرحل صاحب البصيرة تاركاً خلفه مجموعة بشرية تنحدر إلى الهاوية من دون أن تدري، أو تمشي نحو الكارثة بقرار مكتمل.
وهكذا كان على هذا المبدع أن يطوي أحلامه وينتقل من تعاليم اليقظة إلى أقاليم الرثاء. وظل يردّد حتى الخفقة الأخيرة «في الكتابة نقاوم الموت وندافع عن الحياة»، كأن صاحب «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (1968) أحس فجأة أنّ أحلاماً كثيرة تتفتّت بين يديه في ظل «تحولات فاجرة»، وأن الحياة نفسها تذهب إلى مجرى آخر، فأراد أن يهزم الصمت بحمّى الكتابة واستكشاف مكمن الألم بمبضع آخر. هكذا، أنجز خلال سنواته الأخيرة على فراش المرض، مجموعةً من النصوص المهمة بمناوشة اليومي والراهن والحميمي واستبطان بنية التفكير العربي ومشكلات المجتمع المعاصر كما في «أحلام شقية» و«يوم من زماننا». إذ لم تعد مقارعة التاريخ وحده كافية لمواجهة العطب. وما اندحار المثقف العضوي إلا محصلة لأبشع أشكال الاضطهاد والتهميش والاستبداد التي وقعت عليه. ويختزل محنة المثقف بقوله: «ثمة أنظمة استخدمت ذهب المعز، وأخرى استخدمت سيفه، وجميعها اتفق على أن المثقف مشاغب ينبغي ترويضه أو التخلص منه. ولعل أكبر شريحة عرفتها السجون السياسية هي شريحة المثقفين».
لكنّ سعد الله ونوس لن يفقد الأمل نهائياً... وها هو يشير بوضوح في الكلمة التي ألقاها في يوم المسرح العالمي تحت عنوان «الجوع إلى الحوار» (1996) إلى «أنّنا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ».