كان ــــ محمّد رُضا
أثبت الأفلام التي شاهدناها حتّى الآن في كان، أنّ القيّمين على المهرجان العريق، نجحوا في استقطاب أفضل الأعمال التي أنتجت حديثاً حول العالم. إلا أنّ الدورة الستين التي افتُتحت في 16 الجاري بعرض «لياليّ بطعم التوت» للمخرج الصيني كار واي ـــ وونغ، لم تبدأ فعلياً الا بالفيلم الذي تلاه، وحظي باعجاب النقاد ألا وهو «النفي» للمخرج الروسي أندريه زڤياجنتسيڤ.
يتناول «النفي» قصة عائلة روسية، تماماً مثل فيلم زڤياجنتسيڤ الأول «العودة» الذي روى قصّة والد يعود بعد غياب طويل ليطبّق نظاماً صارماً على عائلته وولديه. وضمن هذا السياق يندرج فيلمه الجديد. فالأب أيضاً يعود بعد غياب لكنّ زوجته هي التي ستعاني هذه المرّة من تسلّط الزوج وطغيانه. يذكّرنا فيلم «النفي» كثيراً بشاعر السينما أندريه تاركوفسكي. لكنّ السيناريو نقطة ضعف العمل الذي أنقذه التنفيذ الفنّي وأسلوب التأمل و«النحت في الزمن» حسب تعبير تاركوفسكي.
وقد يتهيّأ لمن يتابع عروض المهرجان في المدينة الجنوبية الفرنسية، أنّ الدورة الحالية تشكلّل انعطافة لهذا الموعد العالمي الذي يبدو فجأة وقد تخصّص بالسينما البوليسية وأفلام التشويق والجريمة (!) إذ أنّ البرنامج يتضمّن ستّة أفلام تنتمي، بشكل أو بآخر، إلى هذا النوع. وكلها في المسابقة الرسميّة.
نبدأ بفيلم ديفيد فينشر «زودياك» المقتبس عن رواية لروبرت غرايسميث. يرتكز العمل إلى أحداث حقيقية وقعت في أواخر الستينات ومطلع السبعينيات في سان فرانسيسكو. يومها قام سفّاح بارتكاب مجموعة جرائم، وراح يراسل صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكال» متحدثاً عن جرائمه. ولم يتمكّن أحد من محققي الشرطة أو منادارة الصحيفة أن يعرف هوية القاتل غلى هذه الساعة. يشتغل فينشر على المشاعر، مركّزاً على الألم الذي أصاب شخصياته، بعدما فشلت في القبض على القاتل الذي ما زالت هويته مجهولة.
أما فيلم الأخوين كوهين الجديد «لا بلد للمسنّين»، المقتبس عن رواية للأميركي كورماك مكارثي بالعنوان نفسه، فتجري أحداثه في الصحراء. منذ اللقطة الأولى، يُدرك المشاهد أنّه في فيلم يحمل توقيع جوِيل وإيثان كوِهين. ولعلّ أهميّة هذا الفيلم، تكمن في أنّه يأتي بعد سلسلة أعمال عاديّة لهذا الثنائي الرهيب للسينما الأميركيّة، كانت منشغلة بالنجاح التجاري... ها هما الأخوان يعودان إلى مجالهما المفضّل الذي صنع فرادتمها عالميّاً، أي القصة البوليسية التي تقوم على شخصيات غريبة الأطوار. جوش برولين في رحلة صيد غزلان في تكساس، يجد مليوني دولار قرب جثث مرميّة في الصحراء، لأفراد عصابتين تقاتلوا حتّى الموت. يقرر جوش أن يسطو على تلك الغنيمة... لكنّه سيتعرض للملاحقة، فتنقلب حياته كلياً. كعادتهما ركّز الأخوان كوِهين على تنميط الشخصيات بطريقة كاريكاتورية من شأنها أن تنعكس ضعفاً على القوّة الجمالية للفيلم.
أما الفيلم البوليسي الثالث فهو «منتزه بارانويد» للمخرج غس فان سانت. في هذا الفيلم، يقتل البطل (جايك ميلر)، خطأ، حارس الأمن في الكليّة. فتدخله تبعات جريمته في دائرة جهنمية. ڤان سانت متأثّر بسينما المخرج المجري بيلا تار، لجهة ترك الكاميرا تصوّر ما تشاء في إيقاع الحياة وتوقيتها الواقعي. لكن بيلا تار قادر على الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع، في حين يخفق ڤان سانت في تحقيق مثل هذا النفاذ. إذ أنّ المشاهد يجد صعوبةً في التقاط الأبعاد التي يكتنفها الفيلم، لأن المخرج لا يبذل أي جهد في توفير المفاتيح الأساسية. نشير هنا إلى أنّ بيلا تار موجود هذا العام بفيلم مقتبس عن رواية بوليسية للفرنسي الشهير جورج سيمنون بعنوان «الرجل اللندني». ويحكي قصّة عامل في محطّة قطارات في بلدة صغيرة، تشاء المصادفة أن يجد نفسه شاهداً على جريمة قتل. ونشير في هذا اليساق إلى ثالث أفلام المخرج الأميركي جيمس غراي «نملك الليل». قبله بسنوات قليلة أنجز «الياردات» الذي لعب بطولته واكين فينكس. في «نملك الليل»، يكتشف البطل (واكين فينكس) بأنّ والده (روبرت دوفال ) وشقيقه (مارك وولبرغ) مهدّدان بالقتل من المافيا الروسية.
وأخيراً كوِنتين ترنتينو، السينمائي الأميركي المشاغب الذي أسلب العنف وأدمن تصويره. فيلمه الجديد «علامة الموت» يبحر عكس تيار الأعمال البوليسية الأخرى التي تناولناها، إذ يلجأ إلى الحيل التقنية. فيلمه تمهيد طويل لمطاردة لا تنتهي... و«علامة الموت» هو القسم الثاني من فيلم «غريندهاوس» الذي يحققه مع المكسيكي روبرت رودريغيز الذي أخرج القسم الأول: «كوكب الرعب». قواعد اللعبة أن ينجز كل من رودريغيز وترنتينو فيلماً مستقلّاً... على أن يتم دمج العملين في فيلم واحد بعنوان «غريندهاوس». وقد انتشر هذا الصنف من الأفلام في ستينيات القرن وسبعينياته.
يتناول ترنتينو في «علامة الموت» قصة قاتل يطارد ضحاياه من الفتيات أثناء توجههن إلى موقع تصوير سينمائي. لكن ماذا سيحصل لرودريغيز لو اختير فيلم ترنتينو وليس فيلمه هو. ليس على المخرج المكسيكي أن يقلق كثراً، فالأرجح أنّ فيلم ترنتينو لن يجلب له هذه المرة ذهبية الدورة!

التسجيلي حاضر بقوّة "أنقذوا الكوكب، واكتشفوا جاك فرجيس"

دانييل عربيد: الرجل «ضائع» والفيلم أيضاً