كوبنهاغن | بعد غياب أكثر من 3 سنوات، كسر المخرج الدنماركي لارس فون ترير صمته، واتصل بالصحافيين متحدثاً عن سبب انسحابه طيلة هذه الفترة، وتحديداً منذ آخر ظهور له في «مهرجان كان» عام 2011 حين شارك بفيلمه «ميلانخوليا». يومها، أثار الجدل بتصريحاته بشأن النازية واليهود، فأصدرت إدارة المهرجان بياناً تعتبره «غير مرغوب به» persona non grata، متهمةً إياه بمعاداة السامية. عاشق الاستفزاز الذي قدم أفلاماً متميزة أثارت الجدل وحازت العديد من الجوائز (فاز فيلمه «راقصة في الظلام» بجائزة السعفة الذهبية عام 2000)، أدلى بحديث طويل خصّ به جريدة «البوليتكن» الدنماركية، فضلاً عن لقاء تلفزيوني كرّر فيه ما كان يجول في خاطره، وما يقلقه حد الموت. ويبدو أنّ خطوته هذه كانت جزءاً من العلاج الذي كان يتبعه. إذ تعرى تماماً، وتحدث بالتفصيل عما يعتريه في هذه الفترة، وعن حالته الصحية، ومعتقداته، وأفلامه السابقة، وفيلمه الأخير، وعائلته وهتلر!
وكان ترير قد لجأ إلى مركز لمساعدة المدمنين للإقلاع عن الكحول والمخدرات وهو يعترف بأن أشدّ ما يفزعه أن تخبو تلك الجمرة التي كانت متقدة داخله، تنير له طريقه بفعل سحري متى لاحت بوادر فكرة أو مشروع لديه. يقول إنّ الفنان الذي ينشف فمه لا ينتج أعمالاً تثير الاهتمام، ويرى أن كل ما قدمه من أفلام سابقاً تقف وراءها تلك الخلطة العجيبة من كأس كوكتيل وبضع مواد... وهي بقناعته نبع الإبداع ومركز القرار.
جاء فيلمه الأخير Nymphomaniac عام 2013 في نسختين: نسخة مخففة حُذفت منها بعض المقاطع، كما اختصر وقت الفيلم إلى 4 ساعات بتدخل «زانتروبا» الشركة المنتجة التي اشترطت ذلك من أجل تمويل الفيلم. النسخة الأخرى هي نسخة المخرج التي عرُضت في صالات كوبنهاغن قبل فترة قصيرة واستغرقت خمس ساعات ونصف الساعة. هذه النسخة تباينت آراء الصحافة بشأنها بين إعجاب شديد وملل تام. هل أصاب المخرج بما صرّح به؟ هل هو محق بشأن مخاوفه وشكوكه؟ فالفيلم المذكور أخرجه بعد «صحوة وجفاف فمه»!
كانت يدا فون ترير تهتزان طوال الوقت على الشاشة أثناء حديثه. وكان قد أخضع نفسه برغبته هو وزوجته للعلاج ومراقبة مركز مكافحة الإدمان على أمل أن يعلن قريباً هويته الجديدة: لارس فون ترير الصاحي الذي تنقى دمه من كل السموم. وهو يود استرجاع إجازة قيادة السيارة، وإلقاء المحاضرات في مختلف المدارس، والتحدث عن أفلامه، وأن يكون أباً حاضراً وإنساناً طيباً.

Nymphomaniac لم يحمل رسالة واضحة غير استعراضه حالات امرأة شهوانية


بالطبع، بدأ ترير باستخدام المهدئات منذ أن توقف عن الشرب. وهو الآن في طريقه إلى إنهاء تدريجي لاستخدامها أيضاً. لكن هذا الطفل المأسور باللهو واللعب، بدا مرعوباً ينتظر من محاوره أن ينفي كلامه. هذا المتمرد على كل أشكال الفن السينمائي التقليدي، المناكف على الدوام، المهووس بالتحريض، يقول إنّه فقد بوصلته ولا يعرف حقيقة أين يقف. ينظر في مخطوطاته ولا يعرف من أين يبدأ، يشك في قدرته مستقبلاً على خلق شيء متوج بالإبداع. إزاء ذلك، شكت زوجته للصحافي الذي أدار الحوار من أن لارس لم يعد خفيف الدم كما كان، وحس الدعابة لديه قد اختفى.
لا يخفي فون ترير الأزمة والمحنة اللتين يعيشهما بسبب طبيعة العلاج والاجتماعات الملزمة التي عليه أن يحضرها في المركز وتزيد من وحدته. ليس هناك من يشاطره أفكاره وهمومه، كما أنه لا يؤمن بحقائق كبرى بشأن الوجود ترد الوحشة عنه، عدا أنّه يعاني أصلاً من أمراض نفسية رافقته منذ الطفولة جعلته إنساناً يتجنب اللقاء بالناس بوجه عام. أما الوسواس القهري الذي عانى منه، فجعله ينشغل بأمر من قبيل: هل يقلّم أظافر يده اليسرى أم اليمنى أولاً، فيما يظن أن الموت يلاحقه باستمرار.
يقول إنّ لجوءه للمسكرات جاء على نحو جدي أثناء تصويره فيلم «كسر الأمواج» (1996) في اسكتلندا عام 1995. بمجرد صعوده العبّارة إلى دوفر، خنقَ نوبة رعب انتابته بنصف زجاجة فودكا و3 حبات من مهدئ «بينزوديازبينر». كان يعمل بمجهود شاق كل مساء. يضيف: «الكحول أفضل المخدرات، كنتُ أستخدمه دوماً كوصفة ذاتية لعلاج كل أنواع الخوف الغبي الذي يظهر عندي. تأثيره فعّال لكنه سلبي على المدى الطويل للأسف. يخفف الخوف في يوم ليخلقه في اليوم التالي».
بصوته المرتجف الذي بدا كأنه يخونه، ونظرته الفارغة، ويديه اللتين أخفاهما إلى الجانبين، بكرشه المتضخم تساءل: «قل لي بحق الشيطان ما الذي سيدفع رولينغ ستون غير الكحول أو جيمي هيندركس سوى الهيروين؟». ثم قال بكلمات واضحة: «ليس هناك من تعبير إبداعي ذي قيمة فنية على الإطلاق نفذ الا من قبل مدمني كحول ومخدرات سابقين. أفضل فترات ديفيد باوي كانت بالمطلق عندما استخدم المخدرات. ذلك كان دائماً وسيلة للوصول إلى عالم مواز. الإبداع هو بشكل ما نشدانك عالماً موازياً».
عندما يكتب السيناريو، كان ترير يعزل نفسه لأيام أو أسابيع محتسياً زجاجة فودكا يومياً مع تعاطيه «مخدراته» كما يقول. على هذا النحو، امتلك مدخلاً للعالم الموازي، وقضى على كل شك لديه، فكان ينطلق سريعاً ويتحرك عبر متاهة من الاحتمالات يمكن لأي سيناريو أن يفتحها. على هذا النحو، كتب سيناريو «دوغفيل» خلال 12 يوماً وجاء بنحو 278 صفحة. فيلم «دوغفيل» كان رائعاً قدم بطريقة مبتكرة، مزج فيه بين المسرح والسينما والأدب بطريقة جعلت الصحافة الأميركية تحتج حينها على اختياره اسم المكان الذي دارت فيه الأحداث ومثلت أميركا في مرحلة الثلاثينيات.
مخطوطة «شبق» Nymphomaniac هي الأولى التي كتبها من دون تناول المخدرات. لكن الأمر استغرق منه سنة ونصف السنة. يقول: «إنّني مصاب بكآبة ولا يمكنني أن أتماسك من أجل أي شيء». يشير إلى تأثير ما يسميه «الفلترة» عليه بفعل خلطة خاصة توصل إليها، لا يقصد بها السكر حد الترنح. حين يتملص من الفلتر الذي نتشارك جميعاً في حيازته وإن اختلفت نسب ما يمر عبره من انطباعات وأفكار، ينزلق إلى عالمه الموازي الذي ينهل منه إبداعه. يقول إنه يؤمن بأنّ الابداع هو البحث عن هذا العالم. هنا يجد القرارات سهلة أمامه عوضاً عن التردد والحيرة والتفكير لأكثر من عام بشأن أفضلية هذا الطريق دون ذاك.
فون ترير لا يريد لكلامه أن يبدو دعاية أو مقترحاً لحل سحري للوصول إلى الابداع، إذ يؤكد في الوقت نفسه خطورة سوء الاستخدام هذا الذي كان قد كلفه الكثير، وقد يكلفه موته، إن لم يكن قد بذل قصارى جهده في التوقف عنه.
فضيحة المؤتمر الصحافي في «مهرجان كان» في ربيع عام 2011 حدثت خلال عرض فيلم «ميلانخوليا»، وكان المؤتمر الأول بعدما أقلع عن الشرب. بلغته الإنكليزية المدرسية البائسة، تورط في ذكر ملاحظات ضمنية عن اليهود وهتلر فهمت على أنها تعاطف مع هتلر وضد إسرائيل. يقول بأسلوبه الساخر إنه في حالات سكره العادي، يمضي خطوة أبعد، كما هي الحال مع الرماية والتنس، حيث عليه أن يسدد، وإلا فالأمر لن ينفع، ولا سيما في إرسال التنس حيث لا ينفع التوقف في منتصفه. لكنه لم يسدد بشكل جيد: «كنت مهذباً جداً لأنني كنت صاحياً. لذلك ترددت ولم أنقل النقاط التي وددت قولها بشكل جيد». قوله إنه يفهم هتلر، أدى إلى خروجه من المهرجان كشخص غير مرغوب به، ليتخلص من عقوبة السجن في مرسيليا لمدة 5 سنوات بمساعدة محاميه. ما يؤلمه أنه يجهل في ما لو كان بإمكانه تقديم المزيد من الأفلام، فما الذي سيفعله بنفسه حينها؟ يجيب: «أنا لا وجود لي من دون أن أنتج شيئاً ما»!
وعما إذا كان «شبق» فيلمه الأخير، أجاب: «سأنجز بالتأكيد أفلاماً لأن خوفي سيزداد، وغبائي أيضاً إن بقيت نائماً في فراشي ولم أنهض في الصباح». لكن ما يخشاه ألا تكون أفلامه جيدة بما فيه الكفاية. أشد خوف لديه أن يسقط في إغراء الكلاسيكيات: أن يصنع «فيلم رجل عجوز»، كما يقول. أن ينهي سيرته الفنية في «فقرة أكسترا للعرض» يطالبه الجمهور بها في نسخة يكرر فيها أفضل الحيل لديه، الخالية من الجرأة، فقط من أجل الإبقاء على جمهور أوسع. يقول: «مثل الأفلام السيئة التي عملها بيرغمان في آخر سنواته، وكما فعل معظم المخرجين في آخر مشوارهم. في «فاني وألكسندر»، جمع بيرغمان كل الأشياء ونفخ بها بطريقة شعبوية جداً. كانت شيئاً مروعاً ببؤسه. قد يرى الناس الذي لم يشاهدوا بقية أعماله، أنه فيلم ممتع، لكني أستطيع أن أرى الأفلام التي استقى منها هذا الفيلم وهي أفلام جيدة».
في فيلم «شبق» الذي يدور حول الحياة الجنسية لامرأة تدعى «جو» وأدت الدور ملهمته شارلوت غينسبور، يغرف فون ترير من قصص وتفاصيل إيروتيكية جمعها عن طريق حوارات وجلسات حقيقية أجراها - كما قال - مع نساء عاديات، بائعات هوى، عند وقوفه في طوابير نساء يقصدن نوادي المازوخيين. في تناوله للتفاصيل، لا يدعو الفيلم إلى الإثارة إطلاقاً. بالعكس هو يتحدث عن وحدة مخيفة لامرأة تدعى جو صادفها رجل يدعى سيليكمان (جسد الدور السويدي ستيلان سكارسغارد) وهي مدماة مرمية في زقاق وقد تعرضت للضرب. يأخذها إلى بيته ويسقيها الشاي، فتروي له بصوت مبحوح هامس وصادق ـــ على مدى خمس ساعات ونصف الساعة ــ قصة بحثها المرضي المضني عما يشعرها بالاكتفاء.
تحدث فون ترير عن مصطلح «الحيدان أو الانحراف» في إخراجه للقصة، وبعدما اعتكف لمدة شهر ونصف الشهر قرأ خلالها كل ما وقع بين يديه من روايات كلاسيكية عالمية. يقول فون ترير: «قرأت الكثير عندما كنت صغيراً ولمدة 30 عاماً. بعدها لم أقرأ كتاباً. بيد أنني عدت للقراءة بمتعة كبيرة. قرأت لدوستويفسكي وآخرين. في رواية «دكتور فاوست» كتب توماس مان: الآن سيحدث شيء عنيف. هذا امتياز يتمتع به الكاتب الذي يقرر بنفسه كيف ومتى يتم الحديث عن هذا الذي سيحدث. لكن ليس الآن ومن ثم نجرف باتجاه آخر». هكذا نشأ إطار قصة الفيلم: جو الشبقية يقابلها سيليكمان المثقف الزاهد. هي تائهة في طرق ملتفة داخل أزقة مسدودة النهايات، وهو العقلاني المهووس بأشياء جمة ابتداءً من معدات صيد الأسماك، وموسيقى باخ المتعددة النغمات، وحتى أرقام فيبوناتشي.
الواضح أن المتفرج لن يجد ما هو مبرر في الكثير من التقاطعات. الفيلم لم يحمل رسالة واضحة غير استعراضه حالات امرأة شهوانية، وبتسلسل ممل في إعادة مشاهد وأفكار تذكرنا بأفلامه السابقة. لا يوجد كشف لبواطن النفس البشرية كما في «آنتي كريست»، ولا الصور الخلابة وانفلاته من كل القوانين المفروضة في اللعبة السينمائية في «ميلانخوليا»، بل نحن نضيع مع ضياعه في تلك الحوارات الطويلة البطيئة التي تبدو لا آخر لها أحياناً. لكن فون ترير يرى غير ذلك. يحب أن يكون المتفرج تحت قبضته بينما هو لا يعرف إلى أين هو ذاهب.
إنه يبدو في دفاعه هو بعينه ــ كما اعتدناه ــ مغامراً محباً للصدمة، مناكفاً متحدياً، لكن هل حقاً كان كذلك في فيلمه الأخير؟ وهل تصريحاته الأخيرة بشأن مستقبله في مجال السينما ما هي إلا محض أوهام وخوف مبدع؟




معاداة السامية

بعد واقعة «مهرجان كان» عام 2011، نُشر اسم فون ترير في القائمة التي أصدرها «مركز سيمون فيزنتال» بأسماء أسوأ 10 تصريحات معادية للسامية في العالم، فاحتل فيها ترير الرقم 5. أثار هذا الرعب فيه، وقرر أن يصمت لأنه شعر بأنه غير قادر على التعبير عن نفسه على نحو لا لبس فيه.