strong>حسين بن حمزة
  • الأدب الفلسطـــيني بيـــن ناريـــــن وأربــــعة جـــدران
    راهنت منذ البدايات عــلى تــفـادي الصورة النمطيّة للفلسطيني. ذات يوم تركت «شرفتها على الفاكهاني» واستجابت لـ«أجراس العودة»، لتكتشف أنها تعيش حصارين: الأول إسرائيلي والثاني عربي. حوار مع الكاتبة والسينمائية التي استشرفت «نجوم أريحا»

    «النعناع والخبيزة والقصب / على ضفاف الجدول / لا تستأذنكم في النمو / ولا تحصل على تصاريحكم». بهذه الطريقة الشديدة الوجدانية والحميمية، والمستنجدة بالوجود الفطري الذي لا يطاله الاحتلال، خاطبت ليانة بدر الإسرائيليين ذات يوم في إحدى قصائدها المؤثرة. اليوم، لم يعد الشعر الشغل الشاغل لليانة بدر. لكنّ المعنى الفلسطيني الذي كان يتحرك تحت عبارتها الشعرية تلك، ظلّ على ما هو عليه. إذ راحت تنقله إلى القصة والرواية والفيلم الوثائقي. الذات التي تكتب لم تتغيّر ولا الاحتلال، بل لعلّه ازداد شراسةً ودمويّةً.
    في مجموعتها الأخيرة «سماء واحدة» (دار الساقي)، تقدّم ليانة بدر أكثر من مثال على التراجيديا الفلسطينية المتواصلة. ولا تكاد تخلو أي قصّة من الحضور الإسرائيلي: منع تجول، تصريح دخول، حواجز، تفجيرات وهدم بيوت... إلى أي حد يمنع ذلك إمكان أن يكتب الفلسطيني نصّه لمجرد ترف الكتابة فقط؟ تقول ليانة بدر: «ليس الاحتلال ضد إنسانية مَن يقع عليه الاحتلال فحسب، بل ضد من يحتَل أيضاً. المحتل في قرارة نفسه ليس سعيداً بسبب شروره، وهذا سيدمّره في النهاية. هذا مأزقه الوجودي. الزمن يهدّد وجوده أكثر منك. لا يمكن أحداً أن يدمّر من دون أن يتدمّر هو أيضاً. قوانين الأشياء تجعل الاحتلال فعلاً موقتاً سيزول عاجلاً أم آجلاً. على رغم كل شيء، بقي الفلسطينيون أكثر صلابة وأشد إصراراً على ممارسة حياتهم اليومية. تحت الاحتلال، تصبح وشائجك أقوى مع الحياة، لأنّ هناك من يحرمك منها». وتضيف صاحبة «شرفة على الفاكهاني» (1983): «أنا أنقل تفاصيل الحياة اليومية، وأفضّلها على الممارسة التجريدية. القصص التي أكتبها مبنيّة على ما هو هامشي وصغير وعابر، وليس على القضايا الكبرى. الواقع يقدّم لي قصصاً لا تحصى، وأنا أستفيد من كوني، مثل شخصيات أعمالي، مواطنة فلسطينية تتعرض لحوادث وتجارب بعضها يُصنّف في خانة السريالية، كما حين يتحول قطع طريق مثلاً، واضطرار الناس إلى اختراع وسائل للوصول إلى أماكنهم، إلى تجربة وجودية كاملة».
    هناك حضور طاغٍ للموضوع الفلسطيني في أعمال ليانة بدر. نجد ذلك في قصصها، وفي رواياتها وأفلامها... لكنّ هناك، في الوقت عينه، سعياً حثيثاً لإبعاد الممارسة الإبداعية عن الحضور السياسي المباشر. وهو ما رأته الناقدة خالدة سعيد في دراسة لها عن رواية «نجوم أريحا». إذ أكدت أنّ «أريحا ليست «القضية» ولا كناية عن «فلسطين» في الإعلام والتظاهرات.
    تقول صاحبة فيلم «فدوى طوقان / شاعرة من فلسطين»: «ما هو نضالي ومباشر كان نقمة على الأدب والفن الفلسطيني. صحيح أنّ قضيتنا عادلة، لكنّ هذا لا يكفي وحده لمنح القيمة لما يُكتب عنها. اشتغلتُ باستمرار ضد الحضور المباشر والفظ للشعارات النضالية. وهذا ما حد من قدرتي على الانتشار، لأنني كتبت خارج الأطر المحددة مسبقاً، ولم أبحث عما هو مقبول ومرغوب فيه لدى النقاد والقراء».
    الواقع أنّ معظم النقد الذي كُتب عن أعمال فلسطينية، عطّل، أو منع حصول قراءة صحيحة وطبيعية لهذه الأعمال. تعامل هذا النقد مع النص الفلسطيني... إما بمنطق التقديس بحيث طغى الاهتمام بـ«نبالة» القضية على حساب الممارسة الاعتيادية في الكتابة... وإما بمطالبة الكتّاب الفلسطينيين بكتابة محددة مسبقاً، أي التعامل مع هذا الكاتب بوصفه مواطناً فلسطينياً قبل أن يكون كاتباً عادياً كغيره. لم يطالب النقّاد كاتباً مصرياً أو لبنانياً أو جزائرياً بما يجب عليه أن يكتبه، لكنهم فعلوا ذلك دوماً مع الكاتب الفلسطيني. حتى القراء العاديون يفتشون غالباً، بتأثير النقد نفسه، عن «الفلسطيني المنمّط والجاهز». تقول ليانة بدر: «ما حماني في عملي هو مخيّلة عنيدة وإصرار على الكتابة الحقيقية، وليس البحث عن الرواج السهل. حتى أفلامي لا تحظى بالإجماع، لأنها لم تُنفّذ وفق قوالب محددة. لقد اجتهدت كي يُقرأ عملي بوجهات نظر متعددة، أن تكون له طبقات من المعاني وأن يكون، في الوقت عينه، في متناول القراء العاديين».
    بعد أوسلو، عاد عدد من الكتاب الفلسطينيين إلى أماكن ولادتهم. وكتبوا نصوص سيرة شديدة التأثير. كما هي الحال في كتاب مريد البرغوثي «رأيت رام الله». عنوان رواية «نجوم أريحا» قد يوحي للقارئ بأنّها واحدة من هذه الكتابات العائدة. الواقع أنّ ليانة بدر كتبت روايتها قبل عودتها إلى فلسطين. والطريف، والمؤلم في آن، هو أنّ صاحبة «نجوم أريحا» مولودة في القدس، وعادت لتقيم في رام الله، لا في أريحا. توضح ليانة بدر أنّ حرب الخليج الأولى التي قضت على أي حلم للوحدة أو التضامن العربي، جعلتها تعتقد بأنّ حلمها الشخصي بالعودة إلى فلسطين انتهى أيضاً. وهذا ما دفعها إلى كتابة «نجوم أريحا» كنوع من استعادة متخيّلة لجزء من فلسطين.
    لكن هل لعب اتفاق أوسلو، والعودة التي تلته، دوراً ما في تغيير النظرة النقدية إلى الإبداع الفلسطيني؟ تجيب ليانة بنبرة لا تخفي الضيق والتهكم: «نعم تغيرت هذه النظرة، في السابق، كانت أعمال الفلسطينيين تخضع لقراءة تنميطية مسبقة. بعد عودتهم باتوا عرضة للتجاهل وفريسة للنسيان. كأنّنا كنا نمثل أدواراً في مسرحية، وحين عاد الممثلون إلى بيوتهم انتهى العرض. في الماضي أُعطيت لنا أدوار نمطية، واليوم نتحرك في الفراغ. لقد كتبنا أعمالاً كثيرة في السنوات الأخيرة، لكنّ الاهتمام قليل. الآن نحن منفيّون مرتين، مرة من الإسرائيلي ومرة من العالم العربي».
    ليانة بدر الكاتبة التي ذهبت إلى السينما أيضاً في تسعينيات القرن الماضي، هي زوجة ورفيقة درب القيادي الفلسطيني ياسر عبد ربه. تُرى كيف أثّر هذا في أسلوبها ومزاجها في الكتابة؟ تعترف صاحبة «بوصلة من أجل عباد الشمس» (1979) بأنّ ارتباطها بسياسي منحها القدرة على رصد تطورات الواقع الفلسطيني ومعايشته من زوايا مختلفة. وتضيف: «قد لا يوفر الزواج برجل سياسي الاستقرار، لكنّي تعلمت من السياسة أن أبتكر وجهات نظر متعددة إلى الواقع. معظم الكاتبات العربيات تتحرك نصوصهن داخل العالم الوجداني للمرأة والأنوثة. أما أنا فقد تجاوزت هذا وكتبت في الفضاء العام مثل الرجل. قال لي محمود درويش ذات مرة إنّني من أكثر المؤلفين ديموقراطية مع شخصياتي. أظن أنّ السياسة تؤدي دوراً ما في ترك الحرية للشخصيات كي تقول ما تشاء، بدلاً من إجبارها على أداء أدوار محددة».

    «سماء واحدة» ـــ مجموعة قصصيّة ــــ «دار الساقي»، بيروت