حسين بن حمزة
يتناول الفنّان اللبناني الشاب أسامة بعلبكي، في معرضه الثاني، حالات ذاتية مفعمة بالوحشة... ويتخذ من إنجازات الفنّ العالمي وأسئلته المستجدّة، إطاراً لأبحاثه الجماليّة، وأسئلته الوجوديّة المعلّقة، في قلب راهن حارق يترك بصماته على اللوحة... أشلاءً بشريّة

في معرضه الثاني الذي يحمل عنوان «مشهديات العزلة» (غاليري سافانا – فردان)، يُبدي الرسام الشاب أسامة بعلبكي ضيقاً ومللاً من التشخيص والتجريد معاً. إنه أقرب إلى واقعية التشخيص، مع تسلّل تدرّجات وموادّ تجريدية إلى لوحته. لكن طموحه يتحرك نحو إنجاز لوحة تتجاوب مع ضرورة البحث عن وسائط تعبيرية مختلفة، أو تجديد وظيفة بعض الوسائط التقليدية. ربما هذا ما يفسر أن المشاهد يجد في لوحات بعلبكي نحتاً واقتراحات بنائية، وأصولاً فوتوغرافية، ومبادرات تجهيزية، ومستوردات من تجارب غربية حديثة وما بعد حديثة. ويجد، أيضاً، تدخلات تجريدية.
يمتلك أسامة بعلبكي مزاجاً تعدّدياً يسمح بمرور طبائع كثيرة ومتناقضة إلى ممارسته التشكيلية. وهذا ما يجعل الوجوه والأشياء الموجودة في لوحاته، توحي بأنها تخضع لرواية لونية ثانية. كأنّ الرسام ينقل مجسمات وتماثيل وموضوعات إلى لوحته المسطّحة، ويعيد تأسيسها وفق سياق لوني آخر... لكن هذا اللون لا يتجاهل الاقتراحات الفراغية والكتلوية التي تنتمي إلى النحت أو التجهيز، مثلاً.
ثمة في لوحة أسامة بعلبكي استثمار لمراجع وتيارات وتجارب تشكيلية عدة. يسعى الرسام إلى إنجاز كولاج شخصي. أي إنّ تعددية مراجع اللوحة تسهم في خلق مزاج ذاتي لها. صحيح أنّ هذا المزاج ليس مبتكراً بشكل مطلق، ولا يصنع نبرةً خاصةً ومكتملة الملامح. لكنه يقدم فرصة معقولة في البحث عن حساسية ما، ويساهم في خلق تسوية ومصالحة بين تفكير رسام شاب تلقى تربية فنية قوية ورصينة، ويسعى، في الوقت نفسه، إلى ارتياد مناطق تجريبية غير ممهدةالتربية الرصينة لأسامة بعلبكي لا تأتي من دراسته الأكاديمية فحسب، بل من إرث تشكيلي عائلي كبير. فوالده هو الرسام عبد الحميد بعلبكي، وعمّه هو الرسام فوزي بعلبكي. كما أنّه يشترك مع أبناء عمّه محمد وسعيد وأيمن ـــــ إضافة إلى عدد من زملائه ومجايليه الشباب الذين بدأوا بعرض أعمالهم في الفترة الأخيرة ـــــ في البحث عن هوّيات وملامح ذات خصوصية معيّنة.
يخوض أسامة بعلبكي مغامرة ما في ممارسته، لكنّها مغامرة محسوبة بدقة. إنه يغامر بأدوات ومخيّلات وتجارب يعرفها جيداً. وهذا ما نلاحظه في لوحات معرضه (35 لوحة) التي لا تُظهر إدراكاً ووعياً لمناخات اللوحة فحسب، بل تُشعر المشاهد بطبقة تنظيرية وفكرية مدفونة تحت المسمّيات الخارجية للوحة. مدفونة، لكنها واضحة ومحسوسة.
والأرجح أنّ أسامة بعلبكي يسعى إلى أن يكون رساماً وباحثاً في الرسم. فهو لا يستطيع أن يُخفي انشغاله البحثي داخل عناصر لوحته، وربما هو يتعمّد أن يظهر هذا الانشغال الذي يترافق مع عناصر اللوحة ذاتها. لعل تجاور التنظير والفلسفة مع الرسم يُخفف من دور التلقائية والعفوية في إنجاز اللوحة. المشاهد يشعر بأن التلقائية مستبعدة بشكل متعمّد أحياناً. إنه لا يرى محاكاة طبيعية أو تعبيرية، ولا يجد تدفقاً لونياً. هناك نوع من الفرملة لأي إحساس فطري، أو مستعمل بكثرة. كأنّ بعلبكي يريد أن يقول إن الصورة النمطية للرسام لم تعد تلائم اللوحة الراهنة، وإنه لم يعد بالإمكان إنجاز لوحة تتجاهل ما يحدث في العالم، من تغيرات وانقلابات في أساليب العيش وأنماط التواصل الثقافيالرسم، بهذا المعنى، لا يعود إلهاماً وارتجالاً صافياً. ثمة رغبة في إدخال الحياة الحديثة وما تنتجه يومياً من أفكار إلى الممارسة التشكيلية. لقد حدث هذا في الغرب وما زال يحدث. أسامة بعلبكي، هو واحد من ممثلي هذا الجيل الجديد الذي يستقبل الأفكار الجديدة في لوحته ويتبنّاها، ويحاول أن يحوِّل هذا التبني إلى إنجاز خاص. إنه سعي إلى خلق روابط للوحة (كفن قديم) مع الزمن المعاصر. الرسام يصبح ذا مهنة أكثر حداثة، ويشعر بأنه غير مستبعد من المشهد الجديد.
يقترح أسامة بعلبكي العزلة عنواناً لمعرضه. العزلة بالذات هي أحد المظاهر الكبرى للحياة الحديثة. المشاهد يجد ترجمات مباشرة لهذه المظاهر في المعرض، كما هي الحال في لوحة «قبل وبعد» التي تصوّر جسد امرأة قبل عملية شفط الدهون وبعدها، وهي دعاية تجميلية نصادفها في كل وسائل الإعلام. العزلة تتحقق أكثر حين تكون غير مباشرة. معظم لوحات المعرض غارقة في هذا النوع من العزلة الخفية والمواربة. غالباً ما نجد أشخاصاً وحيدين تحتل عزلاتهم الفردية مساحة اللوحات التي ينوجدون فيها. لقد أحضرهم أسامة بعلبكي إلى اللوحة، وهم بكامل وحشتهم وسوء فهم العالم لهم. حتى إنه يضيف اقتراحات زائدة إلى وجودهم لخلق مبالغة في تصوير عزلاتهم، وإظهار الثمن الباهظ الذي يدفعونه لقاء انطوائيتهم وانزوائهم. فنجد رجلاً بقناع (لوحة «نزهة رجل مقنع»)، وآخر معصوب العينين (لوحة «المدان»)، وثالث بكمامة (لوحة مأخوذة من أصل فوتوغرافي للرسام نفسه)، ورابع بفراشة بين العينين (لوحة «صورة ذاتية مع فراشة»). وهناك لوحات أخرى تنضم إلى فكرة العزلة من زاوية مختلفة. فنجد أريكة شاغرة، ونجد جندياً مقطوع الساق في لوحة «بلا مجد»، وراجمة صواريخ ملصقة فوق مشهد لبلدة بنت جبيل. ثم تظهر قدم ويد مقطوعتان في بورتريه شخصي، في واحدة من أكثر أعمال المعرض تأثيراً: إنها لوحة «الرابعة بعد الظهر».

«مشهديات العزلة»، أسامة بعلبكي ـــ
حتّى الثاني من حزيران (يونيو) في «غاليري سافانا»، فردان : 01،869564