strong> كان ـــ محمد رضا
«أنا أميركي. لا بد من أن أكون حرّاً في السفر أينما شئت». هكذا تكلّم مايكل مور خلال المؤتمر الصحافي الذي تلا عرض فيلمه الوثائقي الجديد «سيكو»، ليردّ على التهمة الموجهة إليه في أميركا، فيما هو يقدم فيلمه في «كان». مور، الابن الرهيب للسينما الأميركية، يعرّي في «سيكو» نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، بعدما سلّط الضوء على العنف الضارب في عمق المجتمع الأميركي («باولينغ لأجل كولمباين»)، وبعدما كشف خلفيات سياسة بوش في الحرب على العراق («فهرنهايت 9/11»).
مايكل مور لا وقت لديه لمواجهة الإدارة الأميركية التي رأت أنّه خرق قواعد المقاطعة الأميركية لكوبا، إذ توجّه إليها مع عدد من المصابين والمرضى الأميركيين لعلاجهم في مستشفيات فيديل كاسترو. والسينمائي الأميركي المشاكس مطالب بالردّ على تلك التهمة غداً بالتحديد. لذا تراه يتساءل: لماذا أُعلن عن القضيّة في هذا الوقت بالذات؟ «هل استيقظ أحدهم من سباته، وقال: مايكل مور لديه فيلم جديد، فلنضايقه قليلاً!».
صاحب «فهرنهايت 9/11» يدرك أنّ المسألة لا تتعلّق بزيارته إلى كوبا بحد ذاتها، بقدر تعلّقها بتوجّهاته السياسية: فهو على يسار خط الوسط الأميركي. ليس من اليسار الصامت، بل من أولئك الذين يصنعون أفلاماً ضد الإدارة الأميركية. أكثر من ذلك، هو صوّر رئيس البلاد جالساً في صف التلامذة الصغار يفكّر بما سيصنع بعدما أعلموه بأن نيويورك تعرّضت لضربة إرهابية. ولا يكتفي بذلك، بل يوقف أعضاء الكونغرس لدى خروجهم من مكاتبهم، ويسألهم لماذا يؤيّدون الحرب في العراق؟ وهل هم على استعداد لإرسال أولادهم للقتال هناك؟
بعد «فهرنهايت 9/11» الذي خطف سعفة «كان» الذهبية قبل ثلاث سنوات، يقارن مور في فيلمه الجديد «سيكو»، بين نظام الخدمة الصحية في الولايات المتحدة، ومثيلاته في أنحاء العالم... وكان قد قام بمقارنة مشابهة، في «باولينغ لأجل كولمباين»، على مستوى القوانين التي تسمح بامتلاك الاسلحة النارية. ويظهر مور في عمله الجديد، كيف تجني شركات التأمين الصحي ثروات ضخمةً على حساب المشتركين فيها ومآسيهم وحاجاتهم. ويلجأ الى إحصاء يكشف أنّ هذا النظام الصحّي يضنّ على المواطنين بالرعاية اللازمة، في أكثر من حالة مرضيّة: فهو لا يقبل معالجة المريض في حالات محدّدة لأنّها مكلفة. وهذا ما يضع الولايات المتحدة في المرتبة ٨٣ بين دول العالم... بالنسبة إلى موضوع الرعاية الصحية، أي مباشرةً قبل سلوڤانيا، وبمراتب كثيرة بعد كندا وبريطانيا وفرنسا و...كوبا! نعم، كوبا.
ولعل «كولمباين» هي الرابط الذي يسهّل الانتقال من مور إلى زميله ومواطنه غس ڤان سانت الذي عرض فيلمه الجديد «متنزه بارانويد» في كان يوم أمس. فقد أنجز فيلماً، هو الآخر، لكنه روائي، عن مذبحة مدرسة كولمباين التي وقعت عام 1999 في أميركا، عندما فتح طالبان النار خلال أحد الفصول الدراسية وأوقعا مجزرة حقيقية من النوع الذي لا يمكن حدوثه إلا في أميركا. عودة إذاًَ إلى السينما الروائية، من خلال «متنزه بارانويد». فيلم آخر لهذا المخرج المستقلّ، يتناول فيه خلوّ حياة أبطاله من المشاعر الاجتماعية والعاطفية التي تربطهم ببيئتهم. منذ «كولمباين» وفان سانت يتابع وضع أبطاله في بيئات معزولة ومشابهة، شريطة أن يحافظ على قطع أي صلة بينهم وبين المرجعية الاجتماعية. بالنسبة إليه، هؤلاء يتحرّكون في فراغ محكم. يعيشون في «بالونات» باقي أيامهم على الأرض ولا يسعون إلى الخروج منها.
تلك هي الحال أيضاً في فيلمه الجديد «متنزه بارانويد» المقتبس عن رواية بليك نلسون حول فتى (غيب نَڤينز) يسبّب مقتل حارس في الكلية التي يدرس فيها، لكنّه لا يواجه مسؤوليّته بل ينفيها... ويستمر في العيش ضمن منظوره، حياةً فارغة من الاهتمامات الأخرى.
هذا الفراغ هو أفضل ما يوفّره الفيلم... فهو أيضاً فارغ من عناصر التواصل مع مشاهديه. لا يملك ما يُثير، ويستغني المخرج عن كل ما يمكنه تشكيل خط تصاعدي للأحداث، مكتفياً بخطّ مستقيم ورتيب من الأحداث. وعلى عكس «سيكو» الذي يخاطب العالم، يخالجنا إحساس بأن «بارانويد بارك» هو فيلم حقّقه فان سانت لنفسه.