كان ــ محمّد رضا
رواية المؤلف البوليسي الفرنسي جورج سيمنون «الرجل اللندني» صارت فيلماً على يد بيلا تار. إلا أنّ هذا المخرج لا يعرف سوى رسم عالمه الخاصّ، بصرف النظر عن الاختلافات التي تطرأ على المادّة المُقتبسة، وتبعدها عن أجوائها الأصلية. فيلمه «تانغو الشيطان» (1994) كان عملاً سينمائياً بالغ الثراء. وعلى رغم أنّ مدّته تجاوزت سبع ساعات، نجح في أسر انتباه المشاهد حتّى الدقيقة الأخيرة. علماً أنّ العمل تميّز بالرتابة المقصودة والإسهاب في وصف الحركة والبطء في معايشة الإيقاع العام للحياة.
الإضافات الفنية والجماليّة التي حملها فيلم بيلا تار في «تانغو الشيطان» نقع عليها في «الرجل اللندني» الذي عُرض أخيراً في مهرجان كان. إلا أنّ المخرج المجري مال هذه المرّة الى أسلوب الإيحاء، ليس على صعيد القصّة فحسب، بل على صعيد اللغة السينمائيّة خصوصاً في الدقائق العشر الأخيرة، إذ يستمر الفيلم في أسلوبه التأمّلي المتأنّي... من دون تدخّل أي عنصر درامي يعطي نوعاً من المَغزى لما نراه.
بالأبيض والأسود، رصد المخرج حياةً اختار لها أسماءً غير مجريّة، لكنّه جعل شخصياتها تتحدّث المجرية... مضيفاً بذلك من غموض العمل. العالم الذي يرسمه بلا ألوان على الشاشة، هو أيضاً بلا ألوان على نطاق الثراء الحياتي. الشخصيات محدودة، وإن صوّر المدينةً كاملةً. يلتقط الشارع فإذا به مهجور. يلتقط المدينة فإذا بنوافذها شبيهة بعيون الموتى. المشهد الوحيد الذي يجمع أكبر عدد من الناس هو الحانة: سبعة أشخاص اثنان منهم يرقصان على أنغام عازفة أكورديون، تماماً كما في «تانغو الشيطان».
استعان بيلا تار بالممثلة الأميركية تيلدا سوينتون التي تؤدّي دور زوجة مراقب قطارات يعمل ليلاً في برجه، ويشهد مشادّة تنتهي بجريمة قتل.
يهتمّ سيمنون، في روايته، بالحبكة والشخصيات... لكنّه لم يلجأ إلى تصوير مناخ قاس وداكن، يدعو الى التشاؤم. أما بيلا تار فأولى اهتمامه للبيئة المحيطة... وأرجع كل ما بقي إلى الخلفيّة. استعار من الرواية فقط ما يخدم عمله. والنتيجة؟ فيلم رائع على الصعيد البصري، والحس الفنّي، والمعايشة الوجدانية، بأصوات المؤثرات الموسيقية وسواها، وباللوحات الكبيرة التي يصوّر عبرها الحياة. شِعرٌ مرسوم بقلم رصاص، وممهور بيد فنّان يعاني دائماً همّ البحث عن تمويل. وحين يجده، يصرّ على إنجاز فيلمه بلا تنازلات... ولو أنّه سيعاني مجدداً حين يخفق العمل في استقطاب ما يكفي من المشاهدين.
أما اختيار «عصيّ على الموت» لكوينتن ترنتينو للمشاركة في «كان»، فجاء من قبيل استعمال الهالة المحيطة باسم المخرج الأميركي، لأن قيمته السينمائية محدودة من دون شك.
نقسم العمل الى قسمين: الأول تمهيدي يعرّفنا الى الشخصيات، والثاني ينقلنا الى الحركة. نحن برفقة ثلاث نساء يثرثرن في سيارة. حين يحلّ الظلام، يدخلن حانة ليستأنفن الثرثرة... ويُقحمن أنفسهنّ في مغامرات لا تنتهي، قوامها القتل والتشويق. في البار سيتعرّفن على «دوبلير» في أفلام الأكشن (كيرت راسل)، يحمل علامة على الخد تكشف أنّ طبيعة عمله عرّضته للكثير من المشقّات. وهذا الرجل سنتبيّن أنّه قاتل خطير، يتفنّن في القتل. يملك سيارة مقعدها مقسّم الى نصفين تفصلهما نافذة سميكة. يجلس ليقود الجزء المحصّن ضدّ الموت، بينما المقعد الخلفي معزّز بوسائل قتل فتّاكة. هكذا سيبدأ في مطاردة بطلاتنا الثلاث... لكن قبل أن ينجز مهمّته تتعرّض له سيارة سريعة تقودها امرأة تبزّه قدرةً في القيادة، ما يفتح المجال أمام سلسلة لا تنتهي من المطاردات الشيّقة... على الطريقة الترنتينيّة! «عصيّ على الموت» ليس في مستوى أفلام ترنتينو السابقة، مثلPulp Fiction وKill Bill»... لكنّه يبقى ممهوراً ببصمة هذا السينمائي الخاص والغريب. جديد ترنتينو إذاً يأتي مجرداً من المفاجآت، فما هي المفاجآت التي ستحملها له (ولنا) جوائز المهرجان؟