مهى زراقط
تدافعت الأحداث الخطيرة في الأيام الماضية بما يفرض تغييراً في السلوك الإعلامي لزعامات الصفّ الأوّل. من خلال المؤتمرات الصحافية التي عقدتها شخصيات قيادية أخيراً، محاولة لرصد الخطاب السياسي وطريقته في إدارة الأزمة، بين استيعاب وتصعيد

لطالما تناول الحديث عن إعلام الأزمة، نقداً لأداء المؤسسات الإعلامية في تغطية الأحداث ــــــ الأزمات التي يعيشها لبنان، منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط (فبراير) 2005. صحيح أنّ هذا النقد كان يطول بمعنى ما السياسيين الذين يقفون وراء تلك المؤسسات، إلا أنّ الأزمة الأخيرة التي استهدفت الجيش اللبناني مباشرة، تفرض تناول الأداء الإعلامي لأهل السياسة، مباشرة أيضاً.
نبدأ من المؤتمر الصحافي الذي عقده أمس رئيس الهيئة التنفيذية في «القوات اللبنانية» سمير جعجع. خلال اللقاء، أجاب جعجع عن رأيه بالمبادرة التي اقترحها رئيس الجمهورية اميل لحود لترتيب الوضع الداخلي، بالقول: «إنها مبادرة غير جديّة، وهو (أي لحود) يحاول أن يأخذ منّا تحت الضغط الذي شكّلته «فتح الإسلام»، ما لم يأخذه في الوقت السابق».
تمثّل مبادرة لحود وردّ جعجع عليها، مثلاً صغيراً لتوضيح الطريقة التي يتصرّف بها السياسيون في أوقات الأزمات على الصعيد الإعلامي. لكن بدايةً يجب التذكير بأن كلام كلّ من لحود وجعجع جاء في مؤتمرَين صحافيين، أي أنهما توجّها إلى الإعلام بأنفسهما. والأمر الثاني الجدير بالاهتمام هو أنّ أداء جعجع الإعلامي، لا سيما في مؤتمراته الصحافية، يكشف مهارةً تؤكّد وقوف خبراء إعلاميين خلفه. ويأتي الحديث عن هاتين الملاحظتين للقول إن الرجلين، وغيرهما من السياسيين، يعون أهمية الإعلام في الاتصال السياسي. لكن أتراهم يعونه في أوقات الأزمات؟
تقتضي الأزمة ــــــ على الصعيد السياسي ــــــ أن يلتزم السياسي الصمت، حتى يتسنّى له الاطلاع على تفاصيل الأحداث، قبل أن يطلّ على الناس ويعلن موقفاً أو رأياً، فيما يفرض الإعلام عليه الكلام. وإذا عدنا إلى التجارب العالمية، يمكننا أن نرصد شكاوى الكثير من السياسيين (الحقيقيين) الذين اضطروا إلى التوجه للجمهور فيما ليس لديهم ما يقولونه، لأن الوقت لم يسمح لهم بعد بالتفكير واتخاذ القرار.
من هنا يفرض السؤال نفسه: ماذا يريد أن يقول من يَدعو إلى مؤتمر صحافي؟ بل ماذا قالت الشخصيات السياسية الخمس التي عقدت مؤتمرات صحافية منذ اندلاع الأزمة الأخيرة؟ في اليوم الأوّل، أطلّ النائب سعد الدين الحريري مطالباً الجيش بالحسم. لكن يمكن الجزم بأن هدف مؤتمره الصحافي كان رفع الغطاء «السني» عن «فتح الإسلام». أما النائب وليد جنبلاط الذي دعا إلى التطوّع في الجيش، فبدا واضحاً أنه لم يسعَ في مؤتمره إلى الحصول على إجابات من «حزب الله» عن أسئلته المكرّرة، بقدر ما كان هدفه تكرار الأسئلة. وكلّنا يعرف أهمية التكرار في عملية التضليل الإعلامي.
التعبئة الإعلامية التي أضاعت «الشنكاش» هي التي دفعت النائب سمير جعجع إلى عقد مؤتمر صحافي، كما يقول. وليعيده (الشنكاش)، كان يكفي أن يخبر، من لا يعرف، بأن منظمة «فتح الإسلام» سورية، وأن المعارضة هي التي تمنع الحكومة من أداء واجبها.
هذا من جهة الموالاة. أما بالنسبة إلى المعارضة، فهي تمثّلت بمؤتمر صحافي للعماد ميشال عون، دعا فيه الحكومة إلى الرحيل متهماً إياها بالإهمال وعدم الكفاءة. وهذا خطاب متوقع من نائب معارض، يتظاهر منذ أكثر من خمسة أشهر للمشاركة في الحكومة. فيما دعا رئيس الجمهورية اميل لحود إلى مبادرة ترتّب الوضع الداخلي اللبناني، وإلى الالتفاف حول الجيش اللبناني. أما «حزب الله» فلم يدلِ بأي تصريح مباشر... ومع ذلك، لا يمكن تفسير هذا الموقف بالصمت في انتظار اتّضاح الرؤية، إذ قد يكون له أسباب أخرى تتعلّق ربما، بوجود رؤية شاملة لكلّ ما يجري في المنطقة. وللحصول على خلاصة من مضمون هذه المؤتمرات، يبدو مفيداً تقديم بعض المعلومات العلمية. إذ يرد في أحد تعريفات «الأزمة» (crise) أنها «وضع درامي جديد، يكون مستحيلاً خلاله التفكير بشكل سليم أو استخدام الموازين التقليدية في الحكم على الأشياء... وهي تفرض أسئلة جديدة على السياسيين تتعلّق بشرعيتهم وهويتهم». لذلك، غالباً ما تنتج الأزمة تغييرات سياسية سواء في النظام أو التحالفات. ويؤدي الإعلام دوراً كبيراً في هذا الإطار، إما لجهة المحافظة على الوضع القائم من خلال تغليب الخطاب السياسي ــــــ الاجتماعي السائد أو... قلبِه. من هنا، يمكننا أن نفهم التغييرات التي تلت الأزمة ــــــ الأم التي هزّت لبنان (اغتيال الرئيس رفيق الحريري)، والتي أسست لتغييرات سياسية كبيرة. وقد سهّلت وسائل الإعلام تقبّل الرأي العام لها، بفعل التغطية المباشرة لما سمّي «انتفاضة الاستقلال» و«ثورة الأرز»... أو من خلال الترويج الإعلامي المتقن لكلّ ما حصل آنذاك من شعارات وألوان...
إذاً، أنتجت الأزمة ــــــ الأم تغييراً سياسياً تجلّى في الخطاب الإعلامي آنذاك. لكن ماذا بعد حصول هذه التغييرات؟ وبعدما «استتبّ» الوضع على تحالفات جديدة، وانقسام واضح في المشهد السياسي؟
ألا تفرض «الأزمات الصغرى» توجهاً نحو الخيار الثاني في السلوك الذي يفترض أن ينتهجه الإعلام، وهو امتصاص الأزمة؟ في الحقيقة، يكشف الخطاب الإعلامي السياسي الحاصل اليوم، أنه لا صورة نهائية للمشهد، وأن تردّدات الأزمة ــــــ الأم لم تنته مفاعيلها بعد... وإلا كيف يستطيع لحود «أن يأخذ تحت الضغط الذي شكلته «فتح الإسلام»، ما لم يأخذه في الوقت السابق؟» سؤال جوهريّ: فإذا لم ينجح ضغط «فتح الإسلام» في الدفع إلى تنازلات، من تراه سيفعل ذلك؟ يبدو أننا محكومون بأزمة مقبلة.