سعد هادي
في الوقت الذي أصدر فيه الكاتب الفرنسي فيليب دوميناك رواية جديدة تعيد النظر بطريقة موت إيمّا بوفاري (راجع «الأخبار» عدد أمس)، ها هي بطلة غوستاف فلوبير الشهيرة التي أبصرت النور قبل قرن ونصف قرن، تعود إلى قرّاء الضاد. إذ أعادت «دار المدى» إصدار رواية «مدام بوفاري» في طبعة جديدة (سلسلة أعمال خالدة) بترجمة الراحل محمد مندور نفسها التي ظهرت قبل نصف قرن.
الرواية التي أكمل كتابتها فلوبير عام 1856 ما زالت تثير شهية القارئ، بابتكاراتها السردية، وتجرّدها من الذاتية، وواقعيّتها المفرطة. أكثر من ذلك، هي تشير إلى قيم اجتماعية اضمحلّت تدريجاً، لمصلحة قيم أخرى تناسب التحوّلات السياسية والاجتماعية لفرنسا وأوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتنسجم مع عصر التنوير، علماً بأنّ أحداث الرواية تدور في حقبة سابقة على ذلك.
إيمّا بوفاري أشهر شخصيّة أنثوية في الأدب الروائي، تشير الى اضمحلال الرومانسية في الحياة والأدب، ليبدأ عصر واقعي ينسجم مع الفكر المادي والكشوفات العلمية... ويمهّد لـ«كومونة باريس»، أول ثورة اشتراكية في العصر الحديث (1871)، وللثورات التي تلتها في أوروبا.
في طبيعة تكوينها الدلالي، إيمّا بوفاري هي «دون كيشوت» معاصر، لكن بثياب أنثوية فرنسية. هذا النموذج الشهواني، المتمرد جسديّاً نراقب تحوّلاته لاحقاً في رواية «التربية العاطفية» التي نشرها فلوبير عام 1869. هنا تشظّت مدام بوفاري إلى عشرات النماذج الأنثوية والذكورية لتنسجم مع زمن آخر. ويروى أنّ فلوبير تجوّل مهموماً بين الخراب الذي أحدثته الـ«كومونة» في شوارع باريس قائلاً: «لو أنّ الفرنسيين قرأوا بعمق ما كتبته في «التربية العاطفية» لما حدث هذا الخراب».
شهرة مدام بوفاري كنموذج أخلاقي، أثّرت في تطوير فلوبير لشكل فني جديد يتوارى فيه الكاتب خلف شخصياته من دون تدخّل منه. ذلك ما انتبه إليه روّاد الرواية الفرنسية الجديدة، فأعادوا اكتشاف ابتكارات فلوبير الشكلية.
بعض مقاطع الرواية تدهشنا لأنّها تُرينا كيف هيمن فلوبير على حيل السرد بسلاسة ليرينا صوراً أكثر من أفكار مجرّدة. سنرى إيمّا وهي تقرأ الروايات الرومانسية بتشوّش، تبحث عن فارس أحلامها، تصطدم بكآبة الواقع الريفي، تتخذ عشيقين ثم تندفع إلى اليأس والانتحار. كل تفصيل يؤدّي إلى الآخر وصولاً إلى الصورة الكاملة عن عصر يضجّ بالتحولات.
ولعل وقائع محاكمة فلوبير المنشورة في الطبعة الحالية واتهامه بتسويغ المحرّم، تذكّرنا بما يجري في زمننا العربي الراهن. فالمشهد نفسه يتكرّر والفارق قرن ونصف من الزمن!