كان ـ محمد رضا
السعفة الذهبيّة لفيلم روماني عن الإجهاض... وأميركا عادت بخفّي حنين

سينما «أوروبا الشرقية» كان لها موقع الصدارة هذا العام على شواطئ الريفييرا الفرنسيّة.
لجنة التحكيم التي ترأسها البريطاني ستيفن فريرز، منحت السعفة الذهبية للفيلم الروماني «أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع، يومان»
(كرستيان مانجو). وطغت على الدورة الستين هموم الشعوب والأفراد، في زمن الحروب والأزمات والتغيرات الكونيّة

شخصيات تحرّكها نزعة الحرية والجدّة الروسية الطيبة تبشّر بالسلام

بغضّ النظر عن الفيلم الفائز بالسعفة الذهبيّة، في الدورة الستين من «مهرجان كان السينمائي» التي اختتمت أمس على الريفييرا الفرنسية، المؤكد أن التظاهرة سلطت الضوء على أعمال جديدة ستثير النقاش أسابيع طويلة، ويتهافت الجمهور عليها في مختلف أنحاء العالم... «كان» يبقى أعرق المواعيد وأهمها، لإطلاق الأسماء والأعمال والتجارب، والتحكم في المسار التسويقي لأحدث انتاجات الفن السابع.
كثيرة هي التي الأعمال التي «فازت» ــــ بمعنى أو بآخر ـــ هذا الموسم في «كان». برزت خصوصاً الأفلام الآتية من «شرق» أوروبا، ويجمع بينها انهماكها بقضايا انسانية، وأسئلة فلسفية ووجوديّة مطروحة على الفرد في الأزمنة الراهنة... فيلم «ألكسندرا» لألكسندر سوخورف يروي قصة امرأة روسية تزور حفيدها المجنّد في حرب الشيشان. تمضي الجدّة الروسية الطيبة ألكسندرا الى سوق البلدة لتبتاع السجائر للجنود، وهنا تتعرّف إلى البائعة الشيشانية مليكة، فتنشأ بينهما علاقة انسانية قويّة. يتفادى الفيلم فخ الشوفينيّة التي تؤيّد الحرب الروسية على الشيشان، ويدعو الى السلام، ومنح الشيشانيين حقّهم في الاستقلال. ونأسف لعدم فوزه بأي من جوائز المهرجان.
أما فيلم بيلا تار «الرجل اللندني»، فقد تكون مشكلته في العلاقة مع رواية جورج سيمنون. لجأ تار إلى أسلوب اخراجي بطيء بدا مفتعلاً. أخذ حبكة سيمنون وشخصياته، وجعلها تدور في مناخ قاس وداكن. نجح الفيلم بصريّاً، في نقل الحس الفنّي، والمعايشة الوجدانية، بالمؤثرات والوحات الكبيرة التي يصوّر عبرها الحياة. لكن المخرج المجري لم يعط هنا أفضل أفلامه.
وكانت مفاجأة المهرجان فوز الفيلم الروماني «أربعة أشهر، ثلاثة أسابيع، يومان» (كرستيان مانجو)، بالسعفة الذهبية للمهرجان. الفيلم الذي يعتمد جماليات تعكس أجمل ما في إرث السنوات الرماديّة، يدور حول معاناة فتاة تحاول مساعدة صديقتها الحامل في التخلّص من جنينها تحت الحكم الشيوعي في رومانيا. القصة عن معركة فرديّة لتحقيق الذات في مواجهة آلة قمعية، أخلاقياً وسياسياً واجتماعياً. ونزعة الحرية تلك هي نقطة القوة في الفيلم، اضافة الى أداء ممثلة غير معروفة، هي آنا ماريا مانينكا. يلتقي الفيلم في تيمته مع أعمال أخرى عدّة في كان. كما فاز كونستانتان لافرونينكو بجائزة أفضل دور رجالي عن بطولته للفيلم الروسي «الإبعاد» (أندريه زفياغينتسيف).
تلك الأعمال تعلن عودة سينما أوروبا الشرقيّة بقوّة إلى كان، في حين كادت تغيب سينما غرب أوروبا رغم جائزة الاخراج التي كانت من نصيب جوليان سكنابل عن فيلمه «لباس الغوص والفراشة» (فرنسا). والحضور الطاغي للسينما الأميركية (خمسة أفلام)، لم ينعكس على الجوائز. «زودياك» ديڤيد فينشر، أفضل الافلام الاميركية، لم يفز بأي جائزة، مع انه فيلم يستعيد أفضل خصائص سينما السبعينات. أما «متنزه بارانويد» لغس ڤان سانت، فلعلّه أكثر الأفلام الأميركية انغلاقاً على الآخر، من خلال امتناع شخصياته عن السعي للتواصل. وقد فاز ڤان سانت بالجائزة الخاصة بالدورة الستين عن الفيلم وكل أعماله. وكان طبيعياً أن تهمل لجنة التحكيم كوينتن ترنتينو وفيلمه «عصيّ على الموت»! ولاقى فيلم الأخوين كوين «لا بلد للمسنين»، المصير نفسه، رغم عناصره البصرية القوية، وبسبب ضعف الشخصيات ونمطية السيناريو...
وسيذكر جمهور «كان» حتماً الفيلم الصيني «لياليّ بطعم التوت» (وونغ كار ـــــ واي)، والفيلم الكوري «تنفّس» (كيم كي ـــــ دوك)، والبرازيلي «الضوء الصامت» (كارلوس ريغاديس) الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم مناصفة مع الثنائي بارونو/ ساترابي (برسيبوليس)، والكوري الآخر «أشعة الشمس السرية» (لي تشانغ ــــ دونغ) الذي فازت بطلته لي شانغ دونغ بجائزة أفضل اداء نسائي، والياباني «غابة الحداد» (ناوومي كواسي) الذي حاز الجائزة الكبرى للمهرجان. كما فاز فيلم «من الجانب الآخر» للمخرج الالماني التركي فاتح اكين بجائزة السيناريو، وهو يرسي جسراً بين ألمانيا وتركيا من خلال عائلتين تقرّب بينهما المأساة.
ويأتي «برسيبوليس» (جائزة لجنة التحكيم)، فيلم الكرتون غير الملوّن الذي يحمل توقيع فينسان بارونو مع الفنانة مرجان ساترابي صاحبة كتاب الشرائط المصوّرة الشهير بالعنوان نفسه. «برسيبوليس» محطة خاصة في «كان» هذا العام. فهو يتطرق إلى السياسي والعام، انطلاقاً من الذاتي والخاص. ذاكرة مراهقة في مهب الثورة الاسلامية، وتناقضات عائلتها ووسطها الاجتماعي... وكل صراعاتها مع الآلة الايديولوجية التي تهدد حريتها الفرديّة. قصة حميمة هي سيرة الفنانة الايرانية ساترابي، ذكرياتها وطفولتها في إيران التي هجرتها الى أوروبا. لم يوجد عملها الصدمة الدبلوماسية المتوقعة على رغم رسالة احتجاج عابرة، نسبت إلى السلطات الايرانية.
ولا يمكن أن نختم كلامنا عن هذه الدورة الستين من «مهرجان كان»، من دون أن نشير إلى النجاح الكبير الذي حققه الفيلم اللبناني «سكّر بنات» لنادين لبكي (تظاهرة «أسبوعي المخرجين»)، وللأمسية اللبنانية التي تركت انطباعاً لدى الجمهور عن وجود فنّ سينمائي ناشط في بلد على حافة زلزال، يعتصم مبدعوه بالفنّ والثقافة شكلاً أساسياً من أشكال المقاومة.




مخرج إسرائيلي... يقطع مع الأيديولوجيا الصهيونيّة


بين الأعمال التي عُرضت في كان خارج المسابقة الرسميّة، شريط إسرائيلي يسلّط الضوء على المخرج الشاب عيران كوليرين. وهذا الفيلم الذي جاء بعنوان «زيارة الفرقة»، يلفت النظر على أكثر من صعيد: الأسلوب الفني الخاص أولاً، والخطاب السياسي طبعاً، إذ يبتعد كوليرين عن الصورة النمطيّة للعربي كما هي سائدة في السينما الإسرائيليّة «الرسميّة»، ويقدم بطله المصري في صورة إيجابية. ولعل كل ذلك جعل الفيلم يفوز بـ«جائزة النقاد» التي تنمحها لجنة دوليّة للأفلام المشاركة في تظاهرتي «أسبوعي المخرجين» و«نظرة خاصة»، إضافة الى جائزة لجنة تحكيم الشباب.
يبدأ الشريط بفرقة الأوركسترا الكلاسيكية التابعة لشرطة الاسكندرية وهي تخرج من مطار تل أبيب في فترة زمنية يخيّل أنّها بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر والإسرائيليين. الفرقة أتت بناءً على دعوة رسمية لافتتاح مركز ثقافي عربي في مستعمرة «بيتاح تيكفا» التي بُنيت على أراضي قرية سجا الفلسطينية القريبة من يافا. لكنْ إثر خروجها من المطار، تجد الفرقة أن لا أحد من المنظمين في انتظارها. فيقرر قائد الفرقة توفيق (ساسون غاباي) أن يذهب مع أعضاء الفرقة إلى المكان المنشود... لكنّ العازفين المصريين يجدون أنفسهم في مكان صحراوي فيه مطعم صغير. هناك، تنشأ علاقات بينهم وبين صاحبة المطعم وبعض الإسرائيليين.
تغلب على الفيلم لمحة شاعرية، وحنيناً يرشح من الذكريات التي يحملها عيران كوليرين من طفولته، حين كان يشاهد الأفلام العربية الذي يبثها التلفزيون الإسرائيلي مطلع الثمانينيات، وكانت الشوارع تخلو من المارة بسببها. ويروي المخرج أنّه كان يجلس مع العائلة لمشاهدة أعمال عمر الشريف وفاتن حمامة وفريد الأطرش وعادل إمام وغيرهم من نجوم الشاشة المصرية.
«زيارة الفرقة» إنتاج إسرائيلي ـــ أميركي ـــ فرنسي مشترك، وهو العمل السينمائي الأول لكوليرين الذي ينجز حالياً سيناريو فيلمه الثاني «درب في الصحراء».

«بيروت دي سي» وMed-screen: هموم المنطقة في المرآة

يقتصر الحضور اللبناني السينمائي في مهرجان «كان» على «رجل ضائع» (دانييل عربيد) و«سكر بنات» (نادين لبكي) اللذين عُرضا ضمن تظاهرة «أسبوعي المخرجين»... ولا على اليوم الطويل الذي خُصّص للسينما اللبنانية ضمن تظاهرة «كل سينمات العالم»، وعُرضت خلاله أربعة أفلام لبنانية طويلة وأربعة قصيرة. ففي إطار «سوق الفيلم» الذي يقام على هامش «مهرجان كان»، نظمت جمعية «بيروت دي. سي» تظاهرة شاشات المتوسط Med-screen التي تقام بدعم من برنامج EUROMED. هكذا أتيح لجمهور من هواة السينما والفنانين والمنتجين والموزعين، أن يطّلعوا على مجموعة أعمال لبنانية وعربية تطرح المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة من العالم.
عرضت «مدسكرين» ستة أفلام من لبنان وتونس والمغرب والجزائر. من لبنان نشير الى «فلافل»، باكورة ميشال كمون الروائية الطويلة. يتناول كمّون ـــ من وجهة نظر الجيل الجديد ـــ العنف الكامن في لبنان بعد الحرب الأهلية. ومن تونس، حضر فيلمان هما «عرس الذيب» لجيلاني السعدي و«كحلوشة: طرزان العرب» للمخرج الشاب نجيب بلقاضي. «كحلوشة» هو مرآة تعكس المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في تونس من خلال قصة حيّ شعبي. وفي الإطار عينه، يندرج «عرس الذيب» لجيلاني السعدي الذي هو لقطة مقرّبة على المجتمع التونسي، بِراهنه الفج والعنيف والمؤذي. ومن المغرب حضر عملان هما «امرأتان على الطريق» لفريدة بورقية و«فين ماشي ماموشي» لحسن بنجلون الذي يُعدّ أحد أنشط مخرجي السينما المغربية. صاحب «الغرفة السوداء» الذي استعاد فيه بقوة زمن الرصاص المغربي وجحيم المعتقلات، اختار هذه المرة أن يفتح ملفّ تهجير اليهود من المغرب إلى إسرائيل. في «فين ماشي ماموشي» (إلى أين يا موشي؟)، يفكّك بنجلون آليات الخديعة الكبرى التي استدرجت المواطنين المغاربة، وشجّعتهم على الهجرة إلى اسرائيل. أما «امرأتان على الطريق» فهو الشريط الروائي الثاني لفريدة بورقية، وفيه تتوغّل المخرجة التي فازت بجوائز عدة في قرطاج ومصر، في حياة المرأة من خلال قصة أمينة التي تبحث عن زوجها. وأخيراً من الجزائر، حضر فيلم طارق تقيا «روما ولا نتوما» الذي يعطي الكلمة لشباب الجزائر الضائع في متاهات المدينة ومجتمع منغلق على نفسه.
www.med-screen.com