strong> بيسان طي
المهرج عاد... المهرج لم يغب لكنه كان صامتاً، المهرج هنا، في قلب بيروت، المهرج يبكي صقر قريش والأحوال السياسية العربية الموغلة في التردّي، إنّه «المهرج» حسب لينا أبيض. المخرجة المسرحيّة اللبنانية التي تكرّس طاقتها للعمل في أحضان الأكاديمية، ونادراً ما تخرج من أسوارها الى صالات بيروت، قدمت أخيراً اقتباساً جديداً لمسرحية محمد الماغوط الشهيرة... التي تعدّ علامة مضيئة في تاريخ المسرح الطليعي العربي، ومحطة أساسية في ذاكرة العصر الذهبي للمسرح اللبناني.
في بيروت مطلع السبعينات، قدم يعقوب شدراوي نص الشاعر السوري الكبير، على خشبة «مسرح بعلبك» (ثم «مسرح أورلي») من بطولة أنطوان كرباج... و«شاب» كان مبتدئاً آنذاك في عالم التمثيل... اسمه أحمد الزين! وعلى خشبة «مسرح غلبنكيان» في الجامعة اللبنانية ــــــ الأميركية، انبعث بعد 35 عاماً مع لينا أبيض التي أدارت مجموعة من طلابها في هذه المسرحية التي «لا تشيخ»، بما أن الأوضاع السياسية العربية لم تتغير فيما يزداد تدهورها...
في رؤيتها السينوغرافية اختارت أبيض علاقة مع الجمهور، مقتربة من المسرح اليوناني في مدرج «غلبنكيان»: الممثلون في الوسط والجمهور على المدرج، سنتيمترات تفصل بينهما، لتؤكد على علاقة تشابك بين العرض وجمهوره. استفادت أبيض من النص الغني، ونجحت في «عصرنته» ولبننته بعض الشيء من دون أن تنزع عنه توجهه العربي. لبننت لهجة بعض الحوارات والشخصيات (مثل المهرج وأعضاء فرقته وشرطيي الحدود)، إلى جانب استخدام اللغة الفصحى في أماكن أخرى. والجدير بالذكر أنّ المسرحي الكبير يعقوب الشدراوي كان قد بذل جهداً لإقناع الماغوط بعد إنجازه النصّ، بتطعيمه ببعض العامية لضرورات الاحتفال. ولبننت لينا أيضاً بعض «القفشات» لتعطي العرض بُعده الشعبي. وبأي حال لم يكن النص ذاته بحاجة إلى تغيير كبير. مع مرور السنوات، ندرك مدى قدرة «المهرج» على التطور والتأقلم... أم انها رتابة الحياة السياسية العربية تجعله صالحاً لكل العصور؟ في عرض لينا أبيض، الخلوي حاضر وشبيهة المغنية دانا أيضاً. وقد استقطبت القراءة الجديدة لـ«المهرّج»، جمهوراً مختلطاً من الشباب والجامعيين، ومن المشاهدين الأكثر تقدّماً في السن. وبهذا المعنى فقد ربحت لينا رهانها: مسرح الماغوط ـــ مثل كاتبه ـــ ليس للنخبة!
والرسالة السياسية المباشرة التي يحملها «المهرج»، لم تضعف بنية النص ولم تثقل على جماليات العرض. استعان الماغوط بـ «اللعبة» الأحب إلى قلوب العامة، إذ قدّم مسرحاً داخل المسرح. تبدأ الرحلة من احتفال لمهرجين هامشيين، لننتقل مع أحدهما في رحلات عبر الزمن إلى صقر قريش، ويستدعي العرض هذا الأخير إلى زماننا. يستفيد الماغوط من «الخيارات» الفنّية التي يتيحها له المسرح والشعر، لكن عندما يتعلق الأمر بالرسالة السياسية التي يود توجيهها، فإنه يقول الكلام مباشرة من دون لف ولا دوران.
واختيار «المهرج»، الآن وهنا، يدفع الجمهور إلى إعادة التفكير في أحوال العالم العربي، الأسئلة عن فلسطين وعن الأراضي العربية المحتلة وعن التخلّف العربي، انسحبت نوعاً ما لمصلحة مسائل واهتمامات أخرى... لكننا نكتشف أنها أسئلة ما زالت ملحّة. إنّنا على حالنا من التخلّف رغم انتقالنا من معسكر إلى آخر. نقرأ على لسان المخرجة في الكتيّب المصاحب للعرض: «هذه المسرحية هي نوع من الملهاة، فخلال بعض التمارين، كنّا نضحك كثيراً. لكن الضحك كان يترك في حلقي طعم المرارة الرهيبة، وحزناً لا يوصف: خسائرنا لا تعوض، وهذه المسرحية تقرع ناقوس الخطر. وعندما يختلط الضحك بالدموع، تكون تلك لحظةً لليأس».
اختارت لينا أبيض الممثّلين من طلابها، شباناً وشابات في بدايات العقد الثاني، يتلمسون طريقهم، لكنهم لم يخيبوا آمال الجمهور، كانوا كالمحترفين، بل إنّ بعضهم تميّز في الأداء مثل محمود جبان في دور المهرج، ولمى مرعشلي الشرطية، وفرح عساف في دور المطربة وغيرهم.
ولا يمكننا القول إن رؤية لينا الاخراجيّة تعتمد كثيراً على «الزخرفة»: الديكور بسيط، والإكسسوارات التي يلجأ إليها الممثلون قليلة. كأنها شاءت أن تكون البطولة القصوى للنص. اختصرته قليلاً، و«عصرنته» ونجحت في الحفاظ على روح المسرحية مثلما كتبها الماغوط عام1960، بل بدت شديدة الأمانة للنص المكتوب. وفي هذا الإطار، لا بد من التوقف عند الموسيقى التي تلعب دوراً مهماً في عمل لينا أبيض، إذ ترافقنا في رحلتنا الافتراضية بين الأزمنة من عود سيمون شاهين إلى «أندلسيات» توفيق الباشا...

مسرحية «المهرّج» للينا أبيض ـــ يعاد تقديمها قريباً في مكان وزمان يحددان لاحقاً