strong>أمل الأندري
في خضمّ الحرب العالمية الأولى، أنجبت فرنسا إديت بياف (1915). كأنّ القدر شاء أن يجعل من هذه المرأة أسطورةً حقيقيةً، بدءاً من ولادتها في لحظة حاسمة من تاريخ بلدها، وصولاً إلى المكانة التي احتلّتها في وجدان معاصريها والبصمات التي تركتها على كبار الفنانين الفرنسيين، مروراً بسلسلة المآسي الشخصية التي طبعت حياتها وأدت إلى وفاتها التراجيدية عام 1963 عن 47 سنة.
كانت حياتها الصاخبة أشبه بسيناريو خيالي حقّاً، ألهم العديد من المخرجين، ومن بين أشهر المحاولات لتناول حياتها على الشاشة، فيلم المخرج كلود لولوش بعنوان “إديت ومارسيل” (1983) الذي ركّز على علاقة الحبّ العاصفة التي جمعت بياف ونجم الملاكمة مارسيل سيردان في أوج تألقهما يومها.
وتأتي الآن محاولة أوليفييه دهان في شريط La Môme الذي تصدّر إيرادات السينما في فرنسا للأسبوع الخامس على التوالي، ووصفه النقاد الفرنسيون بأنّه فيلم السنة. بياف ليست مجرّد أيقونة، أو أسطورة من أساطير الغناء فحسب، بل تجسّد حساسيّة شعب وقصّة وطن عند مفترق حاسم من تاريخه. هناك علاقة شخصية بين الشعب الفرنسي وبياف. لذلك ربّما أثنى النقاد الفرنسيون على فيلم دهان بوجدانية وحماسة، فيما تحفّظ الأميركيون ناظرين إلى الفيلم بعين المشرّح الذي يفحص جثة من دون أن تربطه بها أي علاقة قربى.
افتتح La Môme مهرجان برلين السينمائي الأخير في دورته الـ57، وعند انتهاء العرض، وقف وقوف الجمهور وصفّق طويلاً. والفيلم الذي يبدأ عرضه التجاري في لبنان بعد أيّام، اعتبر استثناءً في مسار السينما الفرنسيّة لجهة انتاجه، إذ من النادر أن نقع على فيلم فرنسي مثله، بإنتاج هوليوودي (21 مليون يورو).
يبدأ المشهد الأول على امرأة هزيلة يتآكلها المرض... وسرعان ما نكتشف أنّ المرأة التي انهارت على الخشبة، فطلبت من شفيعتها القديسة تيريزا أن تساعدها على الصمود كما شفتها من العمى في صغرها... ليست سوى إديت بياف (ماريون كوتيّار). من هذه الصلاة، ينطلق دهان بفيلمه في أسلوب استرجاعي ( فلاش باك). من تلك المغنية الدميمة والقصيرة التي لم يفارقها الفستان الأسود طوال مسيرتها الفنية، يعود بنا إلى حي Belleville الشعبي الباريسي، حيث ولدت تلك الطفلة الموهوبة من رحم الشقاء والفقر، كما تفرّخ النبتة البريّة بين شقوق البؤس. والدها (جان بول روف) فنان سيرك متجوّل، تركها مع جدتها (كاترين أليغري)، ليلتحق بالجيش. نحن في الحرب العالميّة الأولى، والصغيرة إديت ستترعرع بين المومسات في الماخور الذي تديره الجدّة. بعد عودة والدها من الحرب، سترافقه إديت وتتقاسم معه حياة الأزقة والرقص. معه سترقص وتغنّي في الشارع، حيث اكتشفها صاحب ملهى في الـ«شان إيليزيه» (جيرار دوبارديو). لوي لوبليه هذا هو الذي تبنّاها وسمّاها La Môme أي الطفلة الصغيرة، أو “العصفورة الصغيرة” حسب عبارة في العامية الفرنسية.
هكذا، بدأت رحلة بياف. غنّت في الملهى فكان النجاح مدوياً. يصوّر فيلم دهان صعودها من الحضيض لتصبح نجمة الـ”ميوزيك هول” في باريس، وتعتلي أشهر خشبات نيويورك. نكتشفها امرأة شغوف، عاشقة يسكنها حبّ الحياة والفنّ، تصرخ “أنا فنّانة” كمن ينفث غضباً يعتمل داخله. لكن الطريق إلى القمّة، مزروعة بالعذابات: من وفاة ابنتها إلى مقتل حبيبها مارسيل سيردان (جان بيار مارتينز) عام 1949، الملاكم الذي عاشت معه أقوى قصة حبّ في حياتها. وخطر الانزلاق إلى الهاوية وارد في كلّ لحظة... ودوامة الإدمان والحزن، لن تنتهي إلا بوفاتها المبكرة.
تقنية الفلاش باك التي يقوم عليها الفيلم، جعلت الاختيار الكرونولوجي لحياة بياف يأتي فوضوياً. إذ مزج الحقبات الزمنية، وتنقّل بينها كثيراً إلى درجة أضاع فيها المشاهد. وبين بياف الصغيرة وبياف الناضجة، ضاعت حقبة مهمّة من صاحبة “الحياة الورديّة”. هكذا، غابت شخصيات بارزة في حياتها، ومرّ المخرج على بعضها الآخر مرور الكرام. فأين إيف مونتان الذي تبنته في بداياته ثم تزوجا؟ وأين الشاب الصاعد شارل أزنافور الذي كان كاتم اسرارها؟ كما أنّ صاحب “أرض الميعاد” (2002) حرم عمله من أية ذروة درامية، مكتفياً بالتركيز على بعض اللحظات المصيرية في حياة بياف... فإذا بالفيلم مجموعة من الأحداث التي لا يربط بينها خطّ درامي تصاعدي.
أما باريس الثلاثينيات، فتأرجح دهّان في تصويرها بين الحقيقة والخيال. أعاد ترميم الأمكنة بناءً على حساسيته الخاصة، فإذا به يعيد اختراع المدينة بدلاً من استعادتها كما كانت في تلك المرحلة التاريخيّة. وغابت الواقعية أيضاً عن رسم الإطار الزمني للأحداث، إذ لا نقع مثلاً إلا على إشارة عابرة إلى الحرب. ولعلّ نجاح الفيلم يقوم أساساً على حضور ماريون كوتيّار التي تألقت في تجسيد روح بياف. ولم تكتف بتقليد حركاتها، بل توارت خلف ثوب المغنيّة الأسود، وعاشت مآسيها ومعاناته... فصارت هي إديت بياف. وجاءت الأغاني في الفيلم بصوت بياف نفسها، ما منح الدور قوة إقناع أكبر.
يقدم دهان في La Môme، رسم بورتريه موجزاً لمغنّية خرجت لتوها من إحدى أغنياتها... صحيح أنّ هذا البورتريه أغفل عدداً من التفاصيل، الا أنّه حافظ على الجوهر... ونجح في تصوير حكاية فنانة فريدة في القرن العشرين، استهلكتها الحياة بقدر ما استهلكت هي تلك الحياة. بطلة استحقّت نهاية الأبطال أيضاً. أليست هي التي قالت: “الموت؟ كلا ليس موجوداً”؟

La Môme بدءاً من 4 نيسان (أبريل) في صالات “بلانيت”.
http://www.circuitplanete.com