في زحمة الإذاعات الصباحية التي تتسابق إلى خطف المستمعين بأي وسيلة، بالكاد تجد أغنية تروقك، ولم يعد سهلاً أن تقع على أغنية لفيروز، ذلك الصوت الذي كان إلى سنوات قليلة جزءاً أساسياً من صباحاتنا، كما لو أنه أيقونة تحمي أرواحنا من التلف. اليوم، هناك انقلاب حقيقي في الذائقة، فما إن تدير مؤشر الراديو إلى محطة ما، مهما كان الوقت مبكراً، حتى يباغتك صوت آخر يخرّش سمعك بكلمات بلهاء، لا تبشّر بصباح وردي على الإطلاق، كما تعلن المذيعة المتثائبة، بين أغنية وأخرى، في مقدمات إنشائية بلهاء أيضاً.أبراج اليوم التي تتخلّلها الأغاني الصباحية الصاخبة، تمنحك ما تشتهيه وترغبه من أمنيات مؤجلة، وربما مستحيلة، سواء كنت من برج الثور أو الحمل. لكل برج أغنيته الخاصة، وأبسط الرغبات التي تأتيك على طبق من فضة، هي “خبر سار بانتظارك”، أو “مبلغ من المال في طريقه إليك”، وانتهاء بـ“رحلة ممتعة”. صراحة، لا تعلم ماذا تفعل تماماً أمام توقّعات من هذا النوع، وخصوصاً أنك تتهيّأ للذهاب إلى مركز دفع فاتورة الكهرباء التصاعدية. لكنك في قرارة نفسك، تقول “ربما”، وما المانع أن أنتظر مبلغاً من المال؟ فالحياة هي في نهاية المطاف مجموعة احتمالات. ثم تتراجع شحنة التفاؤل تدريجاً، عندما تستعرض قائمة ديونك، وتكتشف أن خريطتك المالية واضحة مثل سهول حوران. ومن العسير أن تخبّئ لك وراء هضبة ما، كنزاً مؤجلاً. “هكذا تشرق الشمس في سماء بلادي، فوق بساط من العشب والندى، و...الياسمين”، هذه العبارة مقتبسة من برامج الصباح نفسها، تسمعها بعدما تورطتَ تماماً في تجوال حرّ بين الإذاعات الصباحية برفقة فنجان قهوة وكومة سجائر، وأحلام معلّّقة بين خرائط لا تعترف بالحدود الإقليمية. تحلّق عالياً للحظات، لكنك سرعان ما ترتطم بالأرض بكدمات واضحة في الدماغ والذاكرة، فتستنجد على الفور بمحطة إذاعية أخرى، بحثاً عن صوت فيروز، وتوقعات أبراج مختلفة، وتقول لنفسك: “لعلّ وعسى”. لكن الأغاني متشابهة، والأبراج متشابهة، بتغييرات طفيفة بين “عالمة فلك” وأخرى، وغالباً ما تكون مقتبسة حرفياً من صحف الصباح.
انتهت الفترة الصباحية بأغانٍ أكثر بلاهة، ممزوجة بحوارات على الهواء مباشرة، ووصفات يقدمها خبراء تغذية، وبيئة، وعلم اجتماع، وعلم نفس، وتربية بدنية، وأسرة، وعلوم وطب أعشاب، ما يجعل “عزيزي المستمع” يتورّط رغماً عنه في الإنصات إلى هذه النصائح، على رغم صعوبة تنفيذها: فما يطالب به خبير التغذية، يطيحه خبير البيئة، وما تقترحه خبيرة علم النفس، يناقض ما ينصح به عالم الاجتماع.
للصباح الوردي نفسه نكهة أخرى على شاشة التلفزيون، فما إن تغلق الراديو، لتتفرج على أخبار الصباح، حتى تدخل في صباح دموي، وليس وردياً أبداً. هنا، في عالم الصوت والصورة لا سبيل للمزاح والتكهّن. وهكذا، حين يعلن مذيع النشرة الصباحية عن مقتل عشرين شخصاً في العراق، فهو يعني ذلك تماماً، فالخبر موثّق بالصورة الحية، ومن موقع الحدث مباشرة، حيث لا تزال رائحة الموت في المكان. وبالطبع، لن تخلو النشرة من زلزال طبيعي، أو سقوط طائرة. وبين هذه الأخبار، لا بد من أن تكحّل عينيك بتصريح لبوش عن تصدير الديموقراطية إلى الشرق الأوسط، ومقتل فلسطيني على الأقل، وفيضان في الهند، ومجاعة في دارفور، وإنذار من أولمرت، وتبّولة سياسية من لبنان، تتشابك فيها الملاعق والمصالح. وقبل أن تطوي هذه القائمة، وأنت تتناول إفطاراً خفيفاً، بناء على نصيحة خبيرة التغذية، عليك أن تتوقع في أي لحظة أن تقفز إشارة “خبر عاجل” من أسفل الشاشة. وهذا الخبر لن يكون في أحسن الأحوال، أقلّ من انفجار عبوة ناسفة.
كيف إذاً سوف تواجه صباحاً وردياً، وتبدأ نهارك بالتفاؤل، بحسب أمنيات المذيعة؟ وكيف ستجد بعد كل هذه العواصف، وعجقة السير، صوت فيروز؟

خليل...