strong>بشير صفير
  • الموسيقى التجريبيّة أيضاً لها مهرجانها في بيروت

    «المهرجان الدولي للموسيقى التجريبية» ينفتح هذا العام على أشكال اختباريّة أخرى، مثل الفيديو والشعر والتعبير الجسدي... والدورة السابعة التي تنطلق اليوم في بيروت، تطرح مسألة تجاوب الجمهور اللبناني مع هذا التيار الموسيقي المغاير

    هذا المساء، نحن على موعد مع المحطة الموسيقية السنوية الأكثر عرضة للانتقاد والتهميش في بيروت: إنّه «المهرجان الدولي للموسيقى التجريبية» («ارتجال 07»). دورته السابعة تنطلق اليوم مؤكّدة تصميم مؤسّسيه في المضي قدماً بتجربتهم المغايرة، على رغم العوائق العديدة التي تقف في وجه مشروعهم. كلام كثير يقال في هذه التجربة الإشكالية التي قطعت أشواطاً كبيرة في عملية تكوين عالمها الخاص، وتأمين عناصر حيوية تؤمن استمراريتها (تأسيس شركة لإنتاج وتوزيع المواد الموسيقية / الصوتية الخاصة بها، تنظيم مزيد من النشاطات المحلية والعالمية واستضافة كبار الموسيقيين العالميين المتخصصين في هذا المجال...)، فيما ظلّت التجارب العربية المماثلة في مرحلة جنينية.
    وُلدت هذه التجربة في لبنان مطلع الألفية الثالثة، وشقت طريقها بصعوبة بسبب غياب دعم المؤسسات الثقافية الرسمية والخاصة. الا أنّ المشكلة الأساسية هي تلك التي تحول دون توسّع دائرة تأثير المهرجان، من جرّاء غياب التواصل مع الجمهور اللبناني. إذ يجد هذا الأخير صعوبةً كبيرةً في تلقي هذه المادة الفنية واستيعابها، بل يرى فيها مشروعاً عبثياً عقيماً لا شأن له فيه. إلا أن حالة الطلاق مع الجمهور لم تُقلق الفنانين الذي يخوضون تلك المغامرة، أمثال عازف الترومبيت مازن كرباج، وعازف الغيتار شريف صحناوي، وعازف الكونترباص رائد ياسين، وعازف الكلارنيت والفلوت بشير سعادة، والموسيقي شربل الهبر وغيرهم... فقد راح هؤلاء يعملون في منأى عن الأذواق الموسيقية المحلية السائدة، وأسسوا عام 2000 «جمعية الموسيقى المرتجلة الحرّة في لبنان» (Mill) التي تنظّم حفلاتهم وجولاتهم ومهرجانهم السنوي. بينما أسّس مازن كرباج شركة «المسلخ» لإنتاج تجارب المجموعة المغامِرة، وتوزيعها في لبنان والعالم.
    ما لا يعرفه الجمهور اللبناني ربّما هو أنّ هذا التيار الموسيقي ليس حديث العهد ولا من صنع لبناني. فالارتجال يستمدّ جذوره من موسيقى الجاز المبنية على هذا المبدأ أصلاً، ضمن ضوابط محددة، سقطت لاحقاً مع بعض الموسيقيين الذين أطلقوا العنان لحرية الارتجال. كما أنّ فكرة الارتجال أساساً أقدم بكثير من الجاز. إذ كانت موجودة منذ أكثر من قرنين ونصف قرن في الموسيقى الكلاسيكية. أما بالنسبة إلى الشق التجريبي، والاستعمال غير المألوف للآلات الموسيقية واستخدام إكسسوارات من خارج عالم الموسيقى في معزوفة معيّنة، فتجد جذورها في الموسيقى الكلاسيكية بشكل خاص. المؤلف الروسي تشايكوفسكي (1840 - 1893) أدخل المدافع الى موسيقاه الأوركسترالية التي كتبها عام 1880 بعنوان «افتتاحية 1812»، لتقديمها في الذكرى السبعين لانتصار روسيا على الغزاة الفرنسيين. كما أنّ المؤلف الفرنسي ادغار فاريز (1965 - 1883) «زجّ» صفّارات الإنذار في مؤلفاته في عشرينيات القرن الماضي، فيما استعمل السوفياتي بروكوفييف (1891-1953) الرشّاشات الحربيّة، وصفارات الإنذار، في «ثورة اكتوبر» التي كتبها في الذكرى العشرين للثورة البولشفية.
    هكذا توالت التجارب، وزادها تطرّفاً التطور العلمي والتقني والصناعي، وانعكاسه على عالم الموسيقى (ظهور الموسيقى الـ«لامقامية» مطلع القرن العشرين واختراع التسجيل والشرائط المغناطيسية). بدأ التعديل التجريبي للآلة الموسيقية نفسها مع الأميركي جون كيدج الذي ابتكر في أواسط أربعينيات القرن الماضي ما يعرف بـ «البيانو المعدّل» (أو المجهّز)، عبر زجّ القطع المعدنية بين أوتار البيانو. وسرعان ما بدأت تجارب الموسيقى الإلكترونية مع الفرنسي بيار شافر وبيار هنري وغيرهما... تجارب غربية كثيرة ظهرت في عالم الأصوات السحري وتوجّها الاختراع الأهم في القرن العشرين: الكومبيوتر.
    التجربة اللبنانية، بطبيعة الحال، هي الخلاصة الحديثة والراديكالية لمسيرة طويلة من علاقة الإنسان بالصوت غير النغمي وغير الهارموني و... بالضجيج. ويعود التجريبيّون غالباً الى التعريف الأشمل لكلمة «موسيقى»، بأنها كلّ ما يمكن أن يتفاعل مع الأعصاب الصوتية للأذن، وليس فقط كل ما تقبله الأذن بالاتفاق مع الذوق والإحساس! بمعنى آخر، ينطلق أصحاب هذه التجربة في مقاربتهم للصوت ــ أياً كان مصدره ــ على أنّه موسيقى لا العكس. وقد عرف الغرب، في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، رواجاً لهذا الاتجاه وانتشاراً له، واكتسبت الاتجاهات الراديكالية شرعيتها، نازعةً إلى الابتعاد عن الموسيقى المضبوطة، بالمعنى الواسع للكلمة، وإلى الانحراف عن السياق المتعارف عليه، وصولاً إلى التجريبية والأدنوية والارتجال الحرّ...
    منذ سنوات بات في بيروت موطئ قدم راسخ لهذه الاتجاهات. وراح مؤسسو تيار الموسيقى المرتجلة الحرّة يستضيفون في ديارهم رواداً عالميين لهذا النوع الابداعي، ويشاركون بدورهم في مهرجانات مكرّسة خارج لبنان أمام جمهور هاو، تآلف مع هذه الموسيقى أكثر من المستمع المحلّي. أمّا عدم تقبل الجمهور اللبناني لهذا التيّار الموسيقي، فيدلّ على رفضه مواجهة أصداء حياته اليومية وتجلياتها في الفنّ. ذلك أن هذه الموسيقى ليست إلا صورة صوتية منسوخة من واقع الحياة، في جميع مكوناتها التي لا تطاق... بما فيها الصوتية!
    وبالعودة الى «ارتجال 07» الذي تنظّمه جمعية Mill، نلاحظ أنّ المهرجان يختلف هذه السنة في أهدافه وبرنامجه وظروف تنظيمه عن الدورات السابقة. إذ استبدل المنظمون عبارة «مرتجلة حرة» بعبارة «تجريبية» ما يعني أنّ هامش الارتجال سيضيق لصالح الموسيقى المكتوبة أو شبه المكتوبة. وتدخل هذه السنة، الى جانب الموسيقى، فنونٌ أخرى ذات نفَس تجريبي أيضاً، مثل الفيديو والشعر والحركة الجسدية، تنتمي إلى رهان الأشكال البديلة.
    وقد واجه القيّمون على المهرجان صعوبات عدّة في توفير ضمانات أمنية للموسيقيين، فرفض بعضهم المشاركة أصلاً، فيما ألغى بعضهم الآخر مشاركته في الأيام الأخيرة. لكن عدداً من الموسيقيين «غامروا» في زيارة لبنان رغم الأجواء السياسية المتوتّرة، مصرّين على ترجمة إيمانهم بهذه التجربة الموسيقية اللبنانية... ودعمها بكلّ السبل المتاحة.

    هذا المساء في مسرح مونو: 01٫320762
    غداً والجمعة في Crypt: 03٫323339