strong>بيار أبي صعب
  • أحــوال الأنثى... وأيقــونات مــن الزمــن الحــاضر

    تستضيف «غاليري صفير سملر» في بيروت، بالتنس مع «تاونهاوس غاليري» ـ القاهرة، معرضاً جماعياً لتسعة فنانين مصريين من المدرسة المعاصرة: آمال قناوي، هالة القوصي، باسم مجدي، حسن خان، هدى لطفي، منى مرزوق، محمود خالد، طارق زكي، وائل شوقي. بين فيديو وتجهيز ورسم ومونتاج، يعيد هؤلاء اختراع اللحظة الراهنة بمفردات جديدة ومنطق بصري (وفكري) مغاير
    إذا كان لا بدّ من «مكان» ــ بكل المعاني والأبعاد الثقافيّة والفكريّة والجماليّة والايديولوجيّة للكلمة ـ فإن مصر هي هذا المكان بامتياز. وإذا بحثنا عن تجسيد، عربي وراهن، لمفهوم المكان، بما هو منظومة قيم ومراجع وضوابط وتقاليد وعلاقات وقواعد سلوك، فإن المرجع المصري سيفرض نفسه علينا قبل أي مرجع آخر. وتبنّي أشكال تعبير جديدة في مصر، أو اعتماد قوالب وأدوات تنتمي إلى «الفن المعاصر» تحديداً، هو بحدّ ذاته خروج «من» المكان وعليه. الخروج «على» المكان، أو لنقل إعادة اختراع أبعاد أخرى له، وهذا لا تحبّه القاهرة كثيراً. لا نعرف إذا كان وليام ولز فكّر في ذلك، عندما اختار عنوان معرضه البيروتي: «خارج المكان»... إذ حمل مجموعة من فنانيه المصريين من «تاونهاوس غاليري» القاهريّة، ليحلوا ضيوفاً على أندريه صفير في الكرنتينا، حتّى ٣٠ حزيران (يونيو) المقبل.
    يبدو الإطار الثقافي المصري تقليدياً بشكل قاطع، حتّى في امتداداته الطليعيّة والتقدميّة، اليساريّة والتجريبيّة (ولهذا الأمر تفسيراته الشائكة والمعقّدة التي يضيق بها المجال هنا). في استنادها إلى الموروث وتقاليده، تفرض الأكثريّة المرجع القائم، جمالياً وفكريّاً، سلوكياً واجتماعياً وسيكولوجيّاً. كأن هناك نسقاً وحيداً، يملك حتّى سلطة تحديد الأشكال «البديلة» أو الخارجة عليه، فيرسم حدودها ويبت في شرعيتها... كل ذلك يعطي معنىً خاصاً، وقيمة مضاعفة، لمحاولات القطيعة والتجاوز والعصيان، على مستوى النصّ واللغة والقوالب والوسائل والأساليب والأنساق الفكريّة... وهي سمة جيل جديد من المبدعين يفرض نفسه يوماً بعد آخر داخل مصر وخارجها على المستوى العالمي. إنّه جيل حسن خان ووائل شوقي، آمال قناوي ومها مأمون، رندا شعث ولارا بلدي والآخرين. يشتغل هؤلاء على مختلف المواد والوسائط، من اللغة (بالنسبة إلى بعضهم) إلى الصورة. بشكل أساسي. يخوضون في الرسم والنحت، خوضهم في التركيب والمونتاج والفيديو والتجهيز واقتراح «مقامات» مبتكرة للعرض، انطلاقاً من مقاربات إنشائيّة ومفهوميّة وبصريّة ومشهديّة وحسيّة وذاتيّة. وعلى رغم الصعوبة التي تواجهها تلك الثقافة المغايرة منذ تسعينيات القرن الماضي، في تحقيق مكانتها واكتساب شرعيّتها، على مستوى الجمهور الواسع، فإن «الفنّ المعاصر» يشهد في مصر فورة مدهشة، لكي لا نقول ازدهاراً حقيقياً. على هامش المؤسسة طبعاً، لكن في قلب الوجدان المصري عند اللحظة الراهنة، بكلّ أسئلتها ومخاطرها، انهياراتها وتمزّقاتها وتحدياتها. هذا المختبر الحقيقي نبت على حافة الفضاءات الرسميّة والمكرّسة، بفضل عدد من الناشطين في مجال رعاية الإبداع وبرمجته وتقديمه. ولعل وليام ولز مؤسس «غاليري تاونهاوس للفنون المعاصرة» في قلب القاهرة القديمة، هو من أبرز هؤلاء.
    معرض «صفير سملر غاليري»، ويجمع ــــــ تحت عنوان عريض هو «خارج المكان» ــــــ أعمالاً بمواد وتقنيات مختلفة لتسعة فنانين وفنانات من هذا الجيل الجديد، يحمل بصمات وليام ويلز. صاحب «تاونهاوس» الذي يرفض لقب curator يكتشف هؤلاء الفنانين الجدد، يرعاهم ويرافق نموّهم ويقدّمهم في مصر والعالم. وكان من الطبيعي أن يقوم أخيراً هذا «الجسر الجوّي» بين شارع حسين باشا (شارع الميكانيكيين) في القاهرة القديمة والغاليري البيضاء الواسعة التي أطلقتها أندريه صفير قبل سنتين في منطقة صناعية على أبواب بيروت، لتكون أوّل فضاء متخصص في الفنّ المعاصر...
    «خارج المكان» إذاً معرض يضمّ أعمالاً لفنانين قد تجمع بينهم مرحلة عمريّة واحدة (باستثناء الفنانة المخضرمة هدى لطفي)، وعلاقات متقاربة بكيفيّة التعاطي مع الواقع، واعدة التعبير عنه أو تصويره. ثلاثة محاور أساسيّة تدور حولها الأعمال المشاركة، هي المكان (الفضاء الاجتماعي في علاقته بالزمن)، والهويّة (المؤثرات الخارجيّة والداخليّة التي تساعد في بلورتها وتحديدها)، وأخيراً الجسد ــــــ الأنوثة ــــــ الجنس (كإعلان هويّة ولغة، وتعبير عن العذاب أيضاً). الهويّة تشغل منى مرزوق في تفكيكها إشارات ورموز العلم الأميركي بقدر ما تشغل هالة القوصي في تجهيز فيديو يبحث عن روح المكان وتجلياته، وحسن خان المشتغل على مفردات من ميثولوجيا الزمن الحاضر فيها الجنس والدين والكيتش والعلاقة بالفضاء المديني، وحتى في فيديو محمود خالد عن طقوس الزواج، ووائل شوقي الذي يرسم بحثاً عن النقاء، عن فكرة الجوهر بالمعنى الديني ربّما للكلمة.
    الجسد الأنثوي المعذّب والمشرّح هو كالعادة محور أعمال آمال قناوي، ومحور تأملات هدى لطفي الصوفيّة، فيما يشتغل طارق زكي على الحاضر بصفته «ماضي الأيام الآتية» إذا جازت استعارة عنوان مجموعة شهيرة لأنسي الحاج. الجميع يعمل، من خلال مواد ووسائل تعبير متفاوتة، على إعادة امتلاك الأشياء والمفردات والصور، الانطباعات والذكريات... على صياغة الواقع، أو إعادة موضعة «المألوف» من خلال مراجعة إدراكنا المسبق الجاهز لههالة القوصي (١٩٧٤) تعمل في صورها على تفكيك منظومة الإشارات التي تبنى حولها الهويّة (المرئيّة) تحديداً... الصورة التي ما أن نخرجها من إطارها العائلي أو «الإعلامي» حتّى تصبح مشبوهة. على هامش المدينة التي تؤطر كل أعمالها، تسأل نفسها عن تقنيات تهميش الاختلاف. الفيديو (٢٠٠٥ ــــــ ١٧ دقيقة) عنوانه «حكايات غزل البنات»، يدخلنا في عالم افتراضي، طالع من مشاهدات بائع غزل البنات الذي يدور في الأحياء طالباً من «السيدة» أن تأخذ بيده. كل ما يسمع ويرى، على هامش العالم، فوق سطوح القاهرة، من خلال أحاديث أجرتها مع ناس عاديين، أو التقطتها في العالم الافتراضي... ثم وضعتها على لسان ممثلين حقيقيين يتقمّصون تلك الشخصيات والحالات، ويساهمون في إعادة خلق الواقع من خلال قواعد منظورة أخرى.
    من جهته يراقب محمود خالد (١٩٨٢) عرساً في كاليفورنيا، في فيديو بعنوان «زواج أعيد ترتيبه ــــــ واحد» (٢٠٠٧ ــــــ تسع دقائق) من خلال تلك النظرة الدخيلة، يصوّر تلك الحفلة ذات الدلالات والأبعاد الاجتماعيّة. إذ ترسّخ لنظام قيم وأعراف وقواعد، وتكرس الزواج مرجعاً لا مفرّ منه للشرعية والسعادة وتحقيق الذات داخل الجماعة. «زواج أعيد ترتيبه ــــــ واحد» (لعب على مصطلح «زواج مرتّب»)، حلقة من سلسلة يرصد فيها مؤسسة الزواج من خلال طقوسها في مختلف المجتمعات والثقافات. الكاميرا ثابتة ستقترب بالتدريج من المشهد الذي يبدو مسرحيّة كلّ شيء فيها مضبوط بدقّة. يتلصص على المدعوين، ويخترع لعبة مرايا تجعل للنادل صنواً وللمدعو ظلاً، وللعريس والعروس أيضاً في هذه اللعبة الطقوسيّة الاجتماعيّة بامتياز...
    وفي جداريتها (٣٥٠ x ألف سنتم) تلعب منى مرزوق (١٩٦٨) على تكوين العلم الأميركي... تسائل الهويّة وطريقة تقديمها، وكذلك مشاعر الوطنيّة والانتماء. في «جداريّة العالم الجديد» (٢٠٠٦) العلم استبدَلَ بنجماته الـ ١٣ الموجودة على الأصل كما تصوّره جورج واشنطن، كائنات وحيوانات وآليات أسطوريّة مستعارة من أعمال سابقة للفنانة الاسكندريّة: «عالم المورفولوجيا والمهندس» (٢٠٠٣ ــــــ ٢٠٠٤) ثم «أوديسة الذهب الأسود» (٢٠٠٦). كيف نركّب علماً، هويّة، خطاباً قوميّاً جامعاً؟... ونصل إلى حسن خان (١٩٧٥). إنّه أنضج أبناء جيله من دون شك، شاعر الفضاء المديني، الانقلابي والمشاغب. يلتقط الإشارات والرموز والعناصر، ويجمعها في لعبة أضداد. وهذا ما يفعله في عمله «أوتوماتيكي هو الصوت الذي يتكلّم» (٢٠٠٦ ــــــ ١٦ لوحاً من البلكسيغلاس مطبوعة على ثلاثة وجوه) المتفجّر على أكثر من صعيد. يستوحي صور طفولته المتعددة الأبعاد، بحيث تتغيّر الصورة مع تغيّر وجهات النظر... فيجمع جنباً إلى جنب مجموعة من أيقونات الزمن الحاضر في مدينة كالقاهرة، تجمع الدين والجنس، الكيتش والشعارات والملصقات. على الزائر أن يتحرّك شمالاً ويميناً، أن يقترب أو يبتعد من هذه المستطيلات المتلاصقة في جداريّة واحدة عليها كتابات بالإنكليزيّة، كي يندسّ في لعبة الإشارات بين هذيان وسخريّة، بحثاً عن تكوّن المزاج البصري والفكري في كرنفال الأحاسيس والصور والألوان التي تتشكّل منها مدينة هائلة مثل القاهرة.
    أيقونات الزمن الحربي ــــــ التلفزيوني يتلاعب فيها أيضاً باسم مجدي (١٩٧٧)، في عمل «بلا عنوان» (٢٠٠٢ ــــــ ٢٠٠٦). يراكم الفنان الأسيوطي المنشأ رسوماً وكولاجات مرشوشة بالسبراي على جدار واحد... إنّها بروباغندا الحروب، وأسطورة الجندي المتغطرس المنتصر والمتفوق، كما نتجرّعها من كل وسائل الاتصال التلفزيون خصوصاً. روح أندي وارهول تحوم في الجوار... يلوّن الجنود وآلياتهم بطريقة الـ pop، بألوان الزهري والفستقي، ويدس هنا أو هناك رسمة مباغتة كذلك الشمبانزي الذي يستدرج خيال المتلقي إلى مساحات أخرى بعيداً عن إرهاب السلطة (الإمبرياليّة) وبناها وتجسيداتها. تلك الصدمات التي لا يتوقعها المتفرّج لعلّها البدائل الوجودة في تصرّفه، كي يقطع مع الخطاب السائد ويعلن تمرّده واحتجاجه (الهادئ).
    الهدوء والأنوثة والتأمل الصوفي هي الأقانيم التي يقوم عليها عمل هدى لطفي (١٩٤٨) المفاجئ «ماندالا الأنوثة» (٢٠٠٦ ــــــ تجهيز من ٧٦ قطعة خشبيّة ملوّنة). والـ Mandala رسمة هندسيّة بوذيّة تستدعي التأمل الصوفي... كل قطعة «قبقاب» خشبي منحوت، تنتظم القطع في دوائر متقاطعة بحثاً عن الصفاء والكمال والسكينة. القبقاب هذه الأداة المنسيّة من ثقافتنا، يعيد الفنّ المعاصر توظيفها، وتلك الإشارة التي تنضح بالأنوثة ترسم في الفضاء الأفق الخلاق ــــــ الأنثوي ــــــ للعالم البديل.
    الوجه الآخر للأنوثة نقع عليه في رسمات آمال قناوي (1974) المجموعة تحت عنوان «ستقتلين» (٢٠٠٦ ــــــ أكريليك وزيت وفحم على كانفاس، ٢٠٠ x ١٥٠ سنتم)، ومجسميها «بلا عنوان» (٢٠٠٥ ــــــ جبس ومواد مختلفة)... إنّها الأنوثة المهدّدة، المعذّبة، المتألمة التي تتلقّى أشكال العنف والقسوة الخارجيّة. الوجه في حالة ملتبسة بين نشوة وألم، وهي المرّة الأولى التي نكتشف فيها قناوي رسامة بعد عدد من التجهيزات والعروض وأعمال الفيديو، تواصل الرحلة نفسها، وتعبّر عن الوجع الوجودي الميتافيزيقي نفسه، واضعة جسد المرأة (العربيّة، المسلمة) في مواجهة العالم الخارجي الذكوري والجائر والعنيف.
    المفاجأة الأخرى في معرض «خارج المكان» يحملها لنا وائل شوقي (١٩٧١) في مجموعة رسوماته «بلا عنوان» (١٩٩٨ ــــــ ٢٠٠٦، قلم رصاص وأكريليك وزيت على ورق، قياسات مختلفة). لقد عرفنا هذا الفنان من خلال تجهيزاته، وأعمال الفيديو المختلفة... وإذا به يفتح لنا هنا كواليس مختبره الإبداعي... فالرسوم التي يعرضها نوع من «الدراسات» لأعماله وتجهيزاته، شطحات لاواعية، يعالج من خلالها العلاقة بالمادة، يسائل أشكال التعاطي الممكنة معها وصولاً إلى حالة ارتقاء روحانيّة، تشكل جزءاً من انشغالاته الدينيّة المعروفة.
    ونصل أخيراً إلى أعمال طارق زكي (١٩٧٥) من الجبس والحجر والبوليستر المجموعة في ركن خاص كأنّه «متحف مستقبلي»، تحت عنوان «الزمن الآلة: تذكّر الغد» (٢٠٠٤). يشتغل طارق على أدوات من زمننا الحاضر، تختصر علاقتنا بذواتنا، بتقنيتنا، بحضارتنا الهالكة، يصنع منها «آثاراً» وبقايا للمستقبل. لوحة مفاتيح كمبيوتر، خوذة سائق دراجة ناريّة كأنها خوذة محارب روماني لولا النظارتان، وصواريخ وقذائف... كلّها أشياء تمّ العثور عليها في المستقبل، وجمعت في متحف اركيولوجي يحكي عن حضارتنا الغابرة. إنّه نحات الزمن، يتلاعب بالعنصر الوحيد الذي لا يقدر عليه النحت، فيعهد به إلى الأدب أو السينما... طارق زكي عالم أركيولوجيا مستقبلي، يحاول أن يؤرّخ للحاضر من وجهة نظر الأزمنة المقبلة... ترى كيف يكون المتحف في المستقبل؟ كيف يكون المستقبل؟

    معرض «خارج المكان»، حتى آخر حزيران (يونيو) غاليري صفير سملر - بناية طنّوس – الكرنتينا - هاتف : 01,566550