strong> حسين بن حمزة
مسرحية “عالم بلا صوت” التي قدمها عصام بو خالد في يوم “المسرح العالمي” لا ينقصها شيء كي تكون عملاً مسرحياً عادياً. ولولا معرفتنا المسبقة بأنّ العرض يقدّم باسم مؤسسة “البيان” التابعة لدار الأيتام الإسلامية، وأنّ الممثلين هم من الصمّ وضعيفي السمع، لَخَال كثيرون أنّ الأصوات والجمل الغريبة التي يسمعونها يُقصد منها أن تكون غير مفهومة تماماً لغاية إخراجية أو أدائية، لا بحكم إمكانات هؤلاء الممثلين. ما يجعل هذا الاحتمال قائماً ومقبولاً، مردّه إلى أن عصام بو خالد سبق أن قدم عرضاً بعنوان “ماااارش”. ولم يكن ناجحاً ومدهشاً فحسب بل كان صمت ممثليه الكامل السبب الأهم في نجاحه.
وإذا كنا نستعيد التجربة اليوم، أياماً بعد انقضاء المناسبة، فلأنّها تصلح قدوةً ونموذجاً لآفاق تربويّة واجتماعية وتحرّرية يمكن أن يفتحها فنّ المسرح... فكرة “عالم بلا صوت”، يقول بو خالد، بسيطة ومأخوذة عن عوالم الصمّ الذين، كغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة، يعانون التمييز الذي يمارسه المجتمع في حقّهم، سواء بداعي الشفقة... أو بفعل عنصرية مقنّعة. العرض يبدأ بولادة طفل. ينفضّ الجميع من حوله حين يعلمون أنّه أصم. يكبر الطفل ويتزوج بصبيّة “مثله”. ينجبان طفلاً أصم. وتعود المشكلة إلى البداية. وكي لا تتكرر مأساته، يقول الأب إنّ ابنه مثل القمر، ويقرّر أن يرسله ليعيش هناك حيث لا بشر يعاملونه بشكل سيء.
بعد دقائق من بداية العرض، نجح عصام بو خالد في جعلنا ننسى أننا نشاهد عرضاً ذا طبيعة خاصة، ودفعنا إلى تلقّيه كما نتلقّى أي عرض آخر. بل إنه في بعض اللحظات أدهشنا بأداء ممثليه، كما هي الحال في مشهد “أخذ الأم الحبلى بالسرفيس” و“إرسال الطفل الأصم إلى القمر”. إذ كان في إمكاننا أن نتلمّس موهبة واضحة في صياغة الأداء الجماعي. لم يفكر عصام بو خالد في الحل السهل أي النزول إلى مستوى “إعاقة” ممثليه الخلقية، بل جرّب أن يضعهم في مواجهة صعبة ومدهشة مع ذواتهم لكي يبحثوا عن إمكانات أدائية معطّلة أو غير مستخدمة في حياتهم اليومية.
العرض، بهذا المعنى، ليس سهلاً، وهو نتيجة تراكم طويل بدأه بو خالد منذ خمس سنوات مدرّساً للنشاط المسرحي التربوي في دار الأيتام. كانت العروض محصورة بالمؤسسة ولا يحضرها سوى الأيتام وأهاليهم، ولم يكن يخطر في باله أن هذه التجربة الفريدة ستقوده إلى خشبة مسرح يستقبل جمهوراً عادياً.
تجربة بو خالد ممثلاً ومخرجاً أوصلته إلى اختراع لغة وسيطة بين لغته وإشاراته هي اللغة الخاصة بالصم. وهو يشبّه التبادل اللغوي والإيمائي بينه وبينهم بلعبة الـ“بينغ بونغ”. كانت الأعمال السابقة التي اشتغلها معهم إيمائية. ثم قرر أن يخطو بالتجربة إلى حيّز متقدم من خلال تقديم عمل مسرحي يستخدم فيه ممثّلوه أصواتهم وإن كانت غير مفهومة تماماً.
يقول بو خالد: “مع الصم يتم التفكير دوماً بالإيماء. لهذا فكرت أن أقدم شيئاً أصعب. أغرتني فكرة استخدام أصواتهم. لقد تعاملت معهم كممثلين من نوع مختلف وأراهن أن الجمهور يمكنه مشاهدة المسرحية على أنها عرض لفرقة أجنبية لا يفهم لغة ممثليها”.
عرض “عالم بلا صوت” يلعب على طموح مسرحي مشروع رغم صعوبته، وهو أنه لا حدود للمسرح ولا حدود للتعبير. ويمكن المشاهد أن يستمتع بالمواجهة الفريدة والخطرة بين اختبارين مختلفين: المخرج الذي عليه أن يخترع طرقاً جديدة للتعامل مع ممثلين غير مألوفين، والممثلين الذين عليهم أن يبتكروا حواساً أخرى لاستجاباتهم الأدائية. ويفكّر عصام بو خالد في مواصلة هذه التجربة التي خاضها قبله مسرحيون عالميّون، عبر إنجاز عروض مستقبلية يجمع فيها ممثلين «معوقين” وممثلين “عاديين”. ولكي يدعونا إلى تجنّب أي تمييز عنصري، يقول حرفياً: سأدمج بين أكثر من نوع من الممثلين وأكثر من نوع من الأداء.

الثامنة والنصف مساء كل اثنين على مسرح “دوار الشمس” ــ الطيونة.