حسين بن حمزة
كل أنطولوجيا شعريّة تصدر في العالم العربي، هي مناسبة لخناقة جديدة. وهذه القاعدة تنطبق بمعنى ما على مشروع صباح زوين لتقديم الشعر اللبناني إلى قرّاء الجزائر... عاصمة الثقافة العربيّة لعام 2007

أصدرت الشاعرة اللبنانية صباح زوين أنطولوجيا للشعر اللبناني بعنوان “تلك الأشياء التي في الأفق”، عن “منشورات البيت” وضمن نشاطات «الجزائر عاصمة ثقافية عربيّة ــ 2007». وهي الأولى في سلسلة أنطولوجيات عربية وعالمية مدرجة في برنامج العاصمة الثقافية. قدّم الكاتب الجزائري أمين الزاوي للأنطولوجيا بكلمة استعاد فيها ارتباط صورة لبنان بالحداثة في ذهن المثقف العربي، وكونه مختبراً للفعل الشعري والثقافي متمثلاً في مجلات “الآداب” و“شعر” و“مواقف”... إضافة إلى كونه ملاذاً يستضيف المثقفين والكتّاب العرب الهاربين من ضيق أنظمتهم وقمعها، ومركزاً للترجمة والتعدد والحرية.
لا يوجد عادةً معيار محدد وثابت في إنجاز الأنطولوجيات. فعلى رغم استنادها إلى الحضور الشعري الفعلي للأسماء المختارة في المشهد الثقافي لبلد ما، وعلى رغم الطابع الشمولي لها، إلا أنّها تخضع، أولاً وأخيراً، للذوق الشخصي. لهذا، فإن صدور أية أنطولوجيا هو مناسبة لنميمة ثقافية. صاحب الأنطولوجيا يزيح الستار في عمله عن ذوقه ورأيه الشخصيين. وحين يُسقط اسماً ما، ولو سهواً، فإن صاحب الأنطولوجيا يُعامل كمن اقترف جريمةً، فكيف إذا أسقط بعض الأسماء عن سابق تصور وتصميم؟
الحجّة التي يسوقها معدّو الأنطولوجيات تتمثّل في أنّ عملهم يخضع لعملية انتقاء، وأنهم يقدّمون بانوراما شعرية لبلد ما، ولا يمكن أن تتضمن كل شعراء هذا البلد. أما الصعوبة فتكمن في إقناع من لم يقع عليهم الاختيار، بأنّ غيابهم لا يؤثر في الأنطولوجيا، وأن الحاضرين فيها يمثّلون أنفسهم ويمثّلونهم أيضاً. لكن هيهات أن يصدّق المغيَّبون أنهم غُيِّبوا لسبب شعري لا لسبب شخصي.
تقول صباح زوين في المقدمة: “إن الأنطولوجيات تعتبر دائماً عملاً انتقائياً وغير شامل. وهذا صحيح للأسف”. وتشير إلى أنّها حاولت أن تنجز أنطولوجيا “منصفة وشبه دقيقة ومرضية إلى حد بعيد”، وأنها أرادت أن يكون المشهد الشعري اللبناني فيها شاملاً أكثر منه انتقائياً، وأنها اهتمت بحضور الانتماءات والاتجاهات الشعرية لا بتنوّع الأجيال فقط.
على هذا الأساس، ترغب صباح زوين من القارئ في أن يستقبل ويقرأ الأنطولوجيا التي وضعتها للشعر اللبناني. فهي حاولت في اختيارها للأسماء الشعرية أن تضم كلّ الأجيال والتيارات الشعرية اللبنانية، سواء الذين يكتبون قصيدة النثر أو من يكتبون التفعيلة: فحضر 44 شاعراً: أنطوان أبو زيد، سامر أبو هواش، شوقي أبي شقرا، يوسف بزي، شوقي بزيع، زكي بيضون، عباس بيضون، عناية جابر، يحيى جابر، غسان جواد، أنسي الحاج، ندى الحاج، إسكندر حبش، بسّام حجار، لامع الحر، يوسف الخال، شربل داغر، سامر درويش، أنطوان الدويهي، فؤاد رفقة، صباح زوين، وديع سعادة، نور سلمان، ناظم السيد، بول شاوول، محمد علي شمس الدين، شارل شهوان، هنري فريد صعب، رلى صليبا، حنان عاد، حسن عبد الله، محمد العبدالله، حمزة عبود، قيصر عفيف، سوزان عليوان، جوزيف عيساوي، جودت فخر الدين، إسماعيل فقيه، عيسى مخلوف، علي مطر، هدى النعماني، أمال نوار، عبده وازن، زاهي وهبه. في المقابل، غابت أسماء نذكر منها: الياس لحود، عقل العويط، فادي أبو خليل، جمانة حداد، فوزي يمين وغيرهم.
وكما اختارت الأسماء، اختارت صباح زوين بنفسها القصائد والنصوص. وهذا، على الأرجح، منح قيمة مضاعفة لاختياراتها. لكنّ هذه القيمة يمكن أن تكون إيجابية ويمكن أن تكون سلبية. أما الترتيب الأبجدي للأسماء، فخلط الأجيال والاتجاهات والأصوات والنبرات بشكل مثير. هكذا جاء شوقي أبي شقرا بين سامر أبو هواش ويوسف بزي. وزكي بيضون قبل والده عباس بيضون. ولامع الحر قبل يوسف الخال. لكنّ هذا الخلط وفّر فرصة طريفة للقارئ، إذا ما قرر أن يتصفّح الأنطولوجيا على أنّها ديوان واحد. عملية الانتقال من شاعر إلى آخر لن تخلو من مرتفعات ومنخفضات شعرية، هذا إذا لم تصادفه بعض المطبّات والحفر.
الواقع أنّ هذا يكشف النقاب عن أنّ التذوّق الذي يُعطى لانتقاء الأسماء ينبغي أن يشمل النصوص أيضاً. بل إن انتقاء النصوص قد يكون عملية أكثر صعوبة من الأسماء. ففي النصوص تتبدّى حساسية الأنطولوجيا، حيث لا بدّ للإنجازات الشعرية الخاصة بكل شاعر من أن يصطف بعضها في جوار البعض الآخر، لتؤلف سيرة شعرية لبنانية لا تحظى برضى من اختارها وحده، بل تحوز رضى غالبية المشاركين في الأنطولوجيا... ورضى قرّائها أيضاً.
لعلّ هذا الرأي يخالف المبدأ الذي يقوم عليه إعداد الأنطولوجيات الشعرية. لكن ما يُلاحظ في أنطولوجيا صباح زوين التي تتوجّه إلى القارئ الجزائري أولاً، أنّ نصوص بعض الشعراء لا تمثّل تجاربهم بالشكل الأمثل، وقد يخرج هؤلاء أنفسهم بهذه الملاحظة، طالما أن رأيهم لم يؤخذ في اختيار النصوص، وأن التفاوت الكبير في أصوات المشاركين وتجاربهم، يوجّه ضربة أخرى إلى إمكان القراءة المتصلة للأنطولوجيا.
ليس ضرورياً أن تُقرأ الأنطولوجيا كديوان شعري واحد، وربما لا يفكر الشعراء والقرّاء في ذلك أصلاً. لكنّ تجاور النصوص والقصائد يصنع هذا الوهم، ويقترح على الخيال قراءة مختلفة. وعندها يمكن القارئ استبدال نصوص حضرت بنصوص أخرى غابت، ويمكنه إسقاط بعض الشعراء أيضاً.
إذا كان إعداد أنطولوجيا شعريّة أقرب إلى عمل انتقائي، فإن القراءة أيضاً ممارسة انتقائية. أليس كذلك؟

تستضيف حانة “جدل بيزنطي” في كاراكاس، عند التاسعة والنصف من مساء اليوم، الشاعرة صباح زوين في أمسية شعرية لمناسبة صدور مجموعتها “في محاولة منّي” (“دار نلسن”).