خليل صويلح
أمضى الباحثان الصربيان رادو أوليك وبرانكو راديشفيتش سنوات طويلة في اقتفاء أغاني الغجر في صربيا وتسجيلها كما هي من أفواه المغنين. أصحاب هذه الأغاني شعراء مجهولون. لذلك يتم تداولها شفهياً من جيل إلى آخر. تكمن قوة هذه الأغاني في أصالتها وقدرتها على التعبير العميق عن آلام الغجر وشكواهم ورغباتهم. قصائد لا تحتمل أي نوع من المجاز والبلاغة، بل تذهب إلى مقاصدها مباشرة في لغة جامحة وملتهبة. هكذا، تبدو العبارة صلبة وعارية، لها رنين النحاس أشبه بحياة الترحال التي يعيشها الغجر منذ آلاف السنين. أوديسة التيه الغجري أو “أغاني الكستناء الجوّالة” تؤكد بطرق مختلفة أنّ وجود هؤلاء القوم على هذا الكوكب، ليس أكثر من مصادفة. فالأساطير الغجرية تقول إنّ أسلافهم يرمحون على ظهور الخيول في الجنة، وأن تشرّدهم الأبدي ليس إلا محطة دنيوية عابرة. كتاب “أغاني الغجر” (دار التكوين ــ دمشق) الذي ترجمه عبدو زغبور، إطلالة جديدة على هوية شعرية مجهولة ومدهشة وفريدة. فالأغاني المدوّنة هنا لفرط بساطتها تترك أثراً عميقاً في النفس. وهي على رغم أنها محدودة المواضيع، إذ تدور غالباً حول البؤس والجوع والرغبة وسرقة الخيول والموت، إلا أنّها تشبه صرخة مدوّية في العراء. المغنّي الجوّال يختزل الحياة بالشكوى للتغلّب على مصيره التراجيدي في دروب القدر، ويلامس مناطق شعرية بأقصى حالات الحسية والاحتدام. هكذا تتجاور الرغبة في الحب مع الرغبة في سرقة الخيول. مدّ الساق أمام الغريب من جهة، وسحب المدية بسبب الغيرة من جهة ثانية.
لا تكتفي هذه القصائد بالتلميح والإشارة، بل تتوغل إلى المعنى الصريح والمباشر لما يرغب المغنّي الجوّال في قوله. سلاحه الهروب والسخرية وأمنيته العظيمة أن يقع من الأعلى على قدر من اللحم كي يأكل حتى التخمة، وفي صورة أخرى، أن يكون خفّاشاً كي يقع على صدر فتاة بيضاء.
في أغاني الحب لا مجال للتورية أو الرمز. إذ لا اسم آخر للجسد. تتدحرج الكلمات من حنجرة المغنّي كما لو أنّها صخرة ثقيلة تحطم كل ما في طريقها: “صباح الخير أيتها الجميلة. ألف دينار قليل من أجل نظرة منك. ومن أجل صدرك، أسير عشر سنوات مشياً على الأقدام، وأنسى اللغة من أجل شفتيك”. وفي أغنية ثانية، يصف الغجري محبوبته بمفردات بسيطة ومدهشة وخشنة: “انظر فقط يا أبي، كيف ترقص. يشعّ وجهها مثل الفلفل في الفاصولياء، ووجنتها حارة كالشمس. جسدها أملس وأسمر كمقلاة محمّاة”. خضعت هذه الأغاني تاريخياً للتحوير من مغنٍّ إلى آخر. فقد كان المغنّي حين يكتشف خللاً في الإيقاع، يرتجل كلمات جديدة، تتناسب مع أحواله وأحاسيسه لحظة غنائها. وإذا بها تتحول لاحقاً إلى جزءٍ أصلي منها، وهو ما فعله شاعر من مقام لوركا الذي استفاد بشكل واضح من أغاني الغجر في كتابة ديوان كامل حمل اسم “أغانٍ غجرية”.