strong>بشير صفير
  • «كتَبْتَني» قصائد من بيروت وبرلين وبغداد والجزائر

    جمعت جاهدة وهبه مجد الغناء الشرقي من طرفيه، وألمّت بقواعده الصعبة عبر دراسة الغناء السرياني والبيزنطي والتجويد القرآني والغناء الأوبرالي بالعربية... فماذا عن النضج الفنّي لأسطوانتها الجديدة التي أطلقتها بالأمس في بيروت؟

    عرفنا جاهدة وهبه في الغناء الطربي الكلاسيكي، فنانة أصيلة أبحرت عكس التيار التجاري السائد. اختارت الموسيقى الشرقية وتراثها الغني، فأظهرت جدارةً وحرصاً في أدائها لأغنيات عبد الوهاب وأم كلثوم وسيد درويش وزكريا أحمد ووديع الصافي وغيرهم. عرفناها أيضاً شخصيةً مميزةً لها حضورها الواثق، وإطلالتها اللافتة التي يفرضها وجهها المشرق ونظرتها الثاقبة في الأعمال المسرحية والتلفزيونية أو الندوات الشعرية. كانت لها محطات في التأليف الموسيقي، وتحديداً تلحين النصوص الشعرية... لكنّها كانت عابرة.
    ها هي جاهدة تخوض تجربة إصدار أسطوانتها الخاصة بعنوان «كتَبْتَني». الأسطوانة أطلقتها أمس خلال حفلة موسيقية احتضنها قصر الأونيسكو في بيروت. ولا شك في أنّ تجربة التأليف، تبدو منطقيّة في هذه المرحلة من مسيرة فنّانة تملك طاقة كبيرة، ومخزوناً أكاديمياً موسيقياً عالي المستوى، ولها تاريخها الحافل في كل المجالات الموسيقية والفنية. فهل حققت وهبه في مجال التأليف الموسيقي (التلحين تحديداً) نجاحاً موازياً لذاك الذي رافقها طوال مسيرتها الغنائيّة؟ يصعب على الأرجح أن نقدّم إجابة قاطعة! هذا لا يعني أنّ التجربة ليست مرشّحة للنضج والاكتمال. لكنّ الأمر يتطلّب من الفنانة أن تعمل على تطوير حسّ التأليف لديها، بحيث تصبح قادرة على تحميل جملها الموسيقيّة زخماً نغمياً، ومخزوناً جمالياً، تفتقر إليهما أسطوانتها الجديدة «كتَبْتَني» (توزيع ميوزيك ماستر).
    سبق لجاهدة أن أصدرت أسطوانتين: الأولى بعنوان «طقاطيق في العشرينات» (2000) حوت أغنيات يعود تأليفها الى مطلع القرن العشرين (سيد درويش وزكريا أحمد ومحمد القصبجي...). والثانية بعنوان «أنغام في البال» غنّت فيها وهبه بعضاً من روائع الطرب الأصيل، لأم كلثوم وعبد الوهاب ومحمد عبد المطلب ورياض السنباطي ووديع الصافي. لقد جمعت جاهدة وهبه مجد الغناء الشرقي من طرفيه، وألمّت بقواعده الصعبة عبر دراسة الغناء السرياني والبيزنطي والتجويد القرآني والغناء الأوبرالي باللغة العربية. كما درست أصول العزف على آلة العود، كما حازت دبلوم دراسات عليا في التمثيل والإخراج. وشاركت تمثيلاً وغناءً في أكثر من مسرحية وعمل تلفزيوني، مع كبار المخرجين اللبنانيين والعرب. نذكر بينهم: جلال خوري وريمون جبارة وبرونو جعارة وجواد الأسدي ونضال الأشقر وغيرهم...
    في مجال الموسيقى، لحّنت جاهدة نصوصاً صوفية ووجدانية وطنية وعاطفية لكبار الشعراء العرب، إضافة الى نصوص للأديب الألماني غوته... وكانت لها مشاركات في مهرجانات محلية وعالمية. دفعها حسّها الوطني الى كتابة وتلحين أغنية بعنوان «كفى» خلال حرب تموز، صُوّرت في فيديو كليب خاص أخرجته جنى وهبه، وصورت أيضاً فيديو كليب «الشهيد» (كلمات وألحان الفنان إيلي شويري) من إنتاج مديرية التوجيه في الجيش اللبناني وإخراج شربل نصر. نشير أيضاً إلى فيديو كليب من إخراج عبدو نجار لأغنية «بيروت». أغنية غزليّة تصف جمال بيروت عبر التاريخ. لحّنتها وهبه من كلمات الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، وهي منشورة في «كتَبْتَني».
    وفي الأسطوانة الجديدة التي استعارت عنوانها من نصّ للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، حلّّق صوت وهبه ذو الطاقة الاستثنائية عالياً. ولا مفرّ من أن تأسرالمستمع بأدائها الجميل للأغنيات، إنْ لجهة التطريب والتلوين أو لجهة الدقة والتهذيب. إلا أنّ الجمل اللحنيّة الركيكة في تركيبتها وبداهة تواليها، هي في نقطة الضعف التي تكاد تلازم أغنيات الأسطوانة. هذا لا يمنع وجود بعض الجمل اللحنية الموّفقة نغمياً، والمكتوبة بعناية وإحساس وذوق... فضلاً عن جمل أخرى مرتجلة. نشير هنا إلى ثلاث ارتجاليات: «أحذيتي الفارغة» (عن قصيدة معرّبة للألماني غونتر غراس)، «لندع تلاقينا» (شعر أنسي الحاج)، و«إذا هجرتَ» (الحلاج). اقتصرت المرافقة الموسيقية في الأغنيات الثلاث على آلة واحدة (غيتار أو رقّ أو ناي)، بدلاً من التوزيع الموسيقي الهشّ الذي نقع عليه في المحطّات الأخرى من الأسطوانة. هذا التوزيع زاد الأمر سوءاً، وخصوصاً عندما جاء بتوقيع الموسيقي عبدو منذر أو عازف العود نقولا نخله.
    تضمّ الأسطوانة 11 أغنية، كلماتها بتوقيع أنسي الحاج وطلال حيدر وأحلام مستغانمي وأمل الجبوري ولميعة عباس عمارة، إضافة إلى نصين شعريين للحلاّج وأبو فراس الحمداني. كما يحوي الألبوم نصّين رائعين لغونتر غراس صاحب «طبل الصفيح» الحائز نوبل للآداب (1999) نقلتهما الى العربية الشاعرة العراقية أمل الجبوري.
    تناولت النصوص المختارة مواضيع عاطفية ووجدانية وتمرّدية ووجودية، وأيضاً وطنية أهمّها قصيدة «يا دجلة الذكريات» للجبوري، مهداة الى أرواح شهداء جسر الأئمة في العراق المحتلّ. تستعيد الأغنية بغضب ذكرى الشائعة التي أودت بحياة أكثر من ألف عراقي، وأخرى بعنوان «مذهول به التراب» (لأحلام مستغانمي) مهداة الى شهداء الكلمة الحرّة.
    على الصعيد الموسيقي، وتحديداً في الشقّ المتعلق بألحان أغنيات «كتبتَني»، تستوقفنا الارتجالات الجميلة الثلاثة التي قدمتها وهبه، وبالأخص أغنية «لندع تلاقينا» (أنسي الحاج) التي شاركت في تأديتها آلة الرق الإيقاعية منفردة، وأغنية «إذا هجرت» (الحلاج) التي رافق الغناء فيها الناي الذي انفرد في مقدّمة قصيرة وجميلة في بدايتها.
    كما تميزت أغنية «يا دجلة الذكريات» بمشاركة الكورال ومحطات لحنية ندبية كربلائية على إيقاع مناسب تفصل بينها جمل لحنية عادية تجعل عودة هذه المحطات لافتة. من جهة أخرى، شارك عازف الكمان كلود شلهوب في التوزيع (الى جانب مايك ماسي، ميشال فاضل، عبدو منذر، ونقولا نخله) وقدم بعض الجمل المستقلّة على آلته. أمّا على صعيد العازفين، فضمّت التركيبة آلات التخت الشرقي الكلاسيكي: كلود شلهوب (كمان)، جيلبير يمين (قانون)، علي مذبوح (ناي)، نقولا نخله (عود)، علي الخطيب (رق) وآلات أضفت النفَس الغربي أحياناً: روبير كفوري (تشلّو)، رامي حنا (غيتار) ومايك ماسي (بيانو).

    CD «كتبتَني»، جاهدة وهبه. إنتاج خاص ــ توزيع «ميوزك ماستر»
    www.jahidawehbe.com
    www.music.master.com