كوبنهاغن ــ ياسين عدنان
استقبل بعض الأدباء المغاربة، ببعض السخرية، خبر مشاركتي في دورة الأدب العربي التي احتضنتها «الأكاديمية الدنماركية للكتابة الإبداعية». الإبداع بالنسبة إليهم، لا دخل للمعاهد به. فكيف تحدثهم عن أكاديمية يؤمّها طلاب ليتخرجوا منها مبدعين؟ هكذا، وجدت نفسي في كوبنهاغن مع هدى بركات وجمانة حداد وإبراهيم نصر الله وأساتذة الأكاديمية وطلابها في لقاء يتعلم منه الكتّاب أنفسهم، ويعيدون اكتشاف صُوَرهم في مرايا الآخرين.
كان الطلبة درسوا الترجمة الدنماركية للنصّ القرآني، و»استشراق» إدوارد سعيد، ونماذج من الشعر العربي والفارسي. وعملوا على الترجمة الدنماركية لرواية «براري الحمى» لإبراهيم نصر الله، «حارث المياه» لهدى بركات، وعدد من نصوص جمانة حداد وكاتب هذه السطور، التي صدرت في الدنمارك ضمن أنطولوجيا «الجسر» الخاصة بالأدب العربي الحديث.
لم يكن الحوار مع الطلبة ذكياً في جميع مراحله. إذ «نشف» ريق هدى بركات وهي تقنعهم بأنّ غياب مُتخيَّل الصحراء في كتابتها طبيعي، ولا علاقة له بغربتها الباريسية. ثم «ما في صحراء في لبنان» كما أضافت متوتّرة. أمّا إبراهيم نصر الله الذي دعوه باعتباره أردنياً له رواية مريرة عن الصحراء هي «براري الحمى» المترجمة حديثاً إلى الدنماركية، فبدا للطلبة مثل الحاوي وهو يعتمر فجأةً قبعة الفلسطيني. لم يفهموا كيف كنّا نخاطبه باعتباره فلسطينياً هو القادم من عمّان. وهنا وجد نفسه مجبراً على استعادة الملحمة من أوّلها: منذ 1948 وطرد العائلة من القدس، واقتلاع شعب من بلده. الأردن والطفولة الصعبة في مخيم الوحدات... وبقية القصة التي أدهشت الدنماركيين. فحكاية عودة اللاجئين التي تتردّد أمامهم، صار لها مقابلٌ حيّ من لحم ودم وأحلام. أما جمانة حدّاد فكان عليها أن تقسم على الإنجيل والمصحف ليُصدّق الطلبة أنّ ديوانها الأخير «عودة ليليت» لا علاقة له بالتصوّف. أنا كان حظّي أفضل. إذ طالبوني بأن أشرح لهم الإيحاءات الجنسية لآلة العود في إحدى قصصي، وهو السؤال الذي أغرتني طرافته بالتواطؤ معه.
لم تكن جلساتنا مع طلبة الأكاديمية سلسة، لكنها كانت قوية ودالة. اكتشفنا وجهنا الأدبي في مرايا الآخرين، وأرعبتنا قدرة الآخر الثقافي على اختزالنا ومصادرة خصوصياتنا الإبداعية لإدخالنا غرفة التنميط. مع ذلك، كان الحوار نافعاً. الطلبة وأساتذتهم تزعزعوا، وهم يكتشفون هشاشة خلاصاتهم المدرسية المبنية على التعميم. والمبدعون العرب وجدوا أنفسهم في جلسات جدية لتشريح النصوص ومناقشتها... لا علاقة لها بحفلات تقديم الكتب في العالم العربي.
لكن ماذا عن الأكاديمية؟ يمكن تكوين الأدباء في معهد؟ يؤكد الأساتذة، ومعظمهم كتّاب مرموقون، أنّ بعض خريجي الأكاديمية التي افتتحتها وزارة الثقافة منذ 20 سنة لهم حضور قوي في المشهد الأدبي الدنماركي اليوم. شباب يتقدمون بنصّ للجنة القراءة الخاصة بالأكاديمية، ويتم اختيارهم على هذا الأساس ليقضوا سنتين في التحاور في أساليب الكتابة والتعبير، إضافة إلى لقاءاتهم بمبدعين معروفين. قبل أسابيع من زيارتنا، اجتمع الأدباء الشباب بالطاهر بنجلون في لقاء خاص، علماً أن لديهم دوماً لقاءات مع أهم أدباء أوروبا. وأسرّ لنا مدير الأكاديمية: «هؤلاء الشباب لا يتوافرون على مكتبات أدبية في مدنهم. نعم حتّى هنا، ومن هنا ضرورة الأكاديمية».
في طريق العودة إلى مراكش، فكّرت في عشرات الأدباء المغاربة الشباب الذين دفعهم ضيق ذات اليد إلى اختيار التعليم وظيفةً، فوجدوا أنفسهم في المنافي، أو يُدرِّسون في قرى نائية حيث لا كتب ولا مكتبات. أغلبهم في سن الشباب الذين كانوا يحاوروننا ويحكون لنا بفخر عن لقاءاتهم مع كتّاب عالميين. إنهم يتمرّنون على الأدب، وعلى مهنة الكاتب التي لم نجرؤ بعد في عالمنا العربي على اعتبارها مهنة قائمة.