strong> نور خالد
احتفلت قناتا «روتانا» للأفلام (سينما وزمان) في الأيام القليلة الماضية بمناسبة «شم النسيم»، الطقس الفرعوني الذي لا يزال المصريون يحتفون به في بداية الربيع من كل عام. «أفلام الربيع» هو الاسم الذي اختارته الشاشتان، وعيّنت أوقات لعرض أفلام تفوح منها رائحة الزهر وتنضح بشمس الإجازات واللهو والحب. كان علينا مرة جديدة، أن نتحسّر على خسارة ممثلة بحجم سعاد حسني، وهي تغني في «أميرة حبي أنا»، أحد أفلام المناسبة، أغنيتها الشهيرة «الدنيا ربيع والجو بديع، قفلي على كل المواضيع». أهمية هذه الأغنية، بخلاف كل الفرح الذي يتدفق من رنّة صوت السندريلا وهي تؤديها، تكمن في تحولها الى نشيد مرح، يهلل فيه الناس لقدوم الفصل «البديع». الفقراء يحفظون الأناشيد، وهي غالباً تكتب لهم. «شم النسيم» أصلاً، وأدواته من سمك الفسيخ وفسحات «القناطر الخيرية»، هو عيد للبسطاء. هؤلاء، الملايين في مصر، ممن تلوّن قسوة العيش وجوههم بلون رمادي، وهم يدبون الخطوات في الصباحات المغبرة، في وسط البلد ومناطق «أبو السعود»، و«الهجانة»، ومصر القديمة... ينتظرون شم النسيم. تشعرهم الطبيعة بأنهم لا يزالون أحياء، على رغم قسوة العيش وندرة كرمه، وأنها لا تزال تحتفي بهم في مناسبة، ولو مرة كل سنة. السينما مثل الطبيعة. تتبدل لكنها تحتفظ بولائها للبسطاء. السينما، في الاساس، ترفيه البسطاء ومركبتهم السحرية لعوالم أخرى يحلمون بالوصول اليها وعيشها. القناتان، تحتفلان، عبر «السندريلا» وأفلام «فرقة رضا للرقص الشعبي» («اجازة نصف السنة» وغيرها) بهذه المركبة التي يزيدها الربيع ألقاً وسحراً وأملاً. لكن العلاقة بين سينما مصر وأحلام البسطاء والربيع، ليست مستحدثة ولم تبتكرها القناتان هذا الموسم. علينا أن نعود كثيراً الى الوراء. تحديداً الى عام 1942، تاريخ انتاج فيلم «أولاد الفقراء»، تمثيل واخراج وقصة «ملك المسرح» يوسف وهبي. اعلانات الفيلم التي نشرتها مجلة «الصباح» (عدد 3 ابريل/نيسان 1942، ص28 ـــ 29)، هيأت الجمهور لعروضه بالعبارة التالية: «ستحتفل البلاد بعيد شمّ النسيم، وفي الوقت نفسه سيحتفل الفقراء بظهور حياتهم على الستار الفضي». الفيلم يروي قصة كررتها عشرات الافلام المصرية فيما بعد، تتناول ابنة ناظر «العزبة» التي «يسلبها ابن الباشا أعز ما تملك»، فتنجب ابنة لا يعترف بها، ويقرر أخوها (يوسف وهبي) أن يقتله في النهاية، ويخنق الابنة غير الشرعية لإراحتها من معاناة مرض السل. الفيلم هو معالجة سينمائية لمسرحية عرضها وهبي في عام 1932.
علينا أن نقرأ بتمعّن ما ورد في مجلة «العروسة» من نقد للمسرحية بتاريخ 17ـــ2ـــ1932، في الصفحة الخامسة. يقول التعليق: «هذه رواية تضمر الشيوعية وتنشر البلاء، فالمؤلف (أي وهبي) ينزل بكل الأغنياء الى منازل الحطة والغلظة فيعرضهم وحوشاً لا ينقصهم الا الظفر والناب... أما الفقراء الذين هم أكبر باعث على الاجرام (!)، فيجعلهم كالحملان الوديعة في أفواه الاغنياء الكواسر...». وبالعودة الى المسرحية، فإن يوسف وهبي، على رغم انتمائه الى طبقة البكوات، اشتبك مع الرقابة التي أرادت حذف مقاطع من الرواية، وحذفت فعلاً فصلاً كاملاً. وعنه يقول وهبي: «إنه الفصل الذي يتحدث عن مملكة سرية لرجل يدعى الغربي، قواد له ارتباطات بالسلطة، وينشر سلطانه على بؤر الدعارة في درب طياب»!. في الفيلم، لا يعين وهبي الرجل بالاسم وتحل «الحانة البلدي» مكان «مملكة درب طياب». إدارة الرقابة حذفت من يوميات الفقراء الذين احتفوا بفيلمهم في شمّ النسيم، العبارات التالية: «ربتوني بثمن طهارة أختي... اتجوزت واتنكرت بثوب عذراء، بينما كنتي تترمي في أحضان الكلب... سايقة عليك النبي ما تفضحناش... كنت متعتي وحتفضلي متعتي وقت ما اشاء واريد». ثمة علاقة بين الربيع وأحلام البسطاء. لعلّه وجه البراءة؟ سينما «شمّ النسيم» تحتفي بهذه الطهورية.