حسين بن حمزة
كانت بيروت بالأمس على موعد مع محمود درويش. كعادته عرف الشاعر كيف يلتقط أنفاس المستمعين، خلال الأمسية النادرة التي أحياها ضمن فعاليات «معرض الكتاب». ما سرّ القصيدة الدرويشية التي حافظت، في كل تحوّلاتها، على علاقة وثيقة
بـ «الجماهير»؟


على رغم أنه سلك طرقاً شعرية مختلفة، وغيّر وجهة سيره أكثر من مرة، فانعطف هنا وتمهل هناك، فإن محمود درويش ظل شاعر جموع وحشود. هناك، بالطبع، علاقات فردية يقيمها كلّ قارئ مع شعره، لكن تلك العلاقات لا تكاد تترك أثراً في صورته السائدة والمتداولة كشاعر يستقطب جمهوراً واسعاً أينما حلّ. كان الأمر كذلك حين كتب «سجّل أنا عربي» ثم لاحقاً «أحمد العربي» فـ«مديح الظل العالي» و«عابرون في هواء عابر»... وظلّ على هذه الحال وهو يكتب «أرى ما أريد» و«لماذا تركت الحصان وحيداً» و«كزهر اللوز أو أبعد»، والأرجح أنه سيبقى هكذا في مشاريعه المقبلة.
حتى إذا استثنينا السبب السياسي أو النضالي الذي ربط اسم درويش بفلسطين والقضية والمقاومة، وأبعدنا من يتابع شعره تحت هذا العنوان، فإنه لن ينجو من قرّاء الشعر الصافي... وهو يمثّل الطموح الأقصى للشاعر في الوقت الحالي. محمود درويش نفسه أسهم بذكاء في الحفاظ على هذه العلاقة الخاصة والفريدة بين قصيدته وقرائها ومستمعيها. لقد عرف كيف يستثمر تعلّقهم بشعره، ويجعل هذا التعلّق أبدياً تقريباً. لم يذهب وحده في مغامراته الشعرية، بل جرّب أن يأخذهم معه. لقد قادهم، ولا يزال، كعازف الناي في قصص الأطفال. الفرق أنهم لحقوا به وهم في كامل ذائقتهم الشعرية لا بوصفهم مسحورين وغائبين عن الوعي.
لا شك في أنّ بعض قراء درويش لا يزال يعنّ على بالهم أن يسمّعهم الشاعر شيئاً من قديمه، أن يستعيدوا ملمسه السابق بمخيّلة الراهن. هؤلاء قلّة اليوم. صحيح أن درويش يحاول أن يُرضي حنينهم القديم فيسمعهم مقطعاً من «قهوة أمّي» كما فعل في جامعة البلمند قبل سنوات، لكنه سرعان ما يأخذهم إلى فضائه الجديد ليريهم كيف أنه يحلّق في سماوات أوسع وأكثر زرقة وطيوراً الآن.
حتى فترة قريبة، كان محمود درويش يشكو من مطالبة بعض جمهوره بقراءة قصائد أكثر استدعاءً للحماسة، وأكثر إلهاباً للوجدان واستدعاءً للتصفيق. لعله الآن ما عاد في حاجة إلى إبداء تذمّره من ذلك النوع من المحبة الذي يحوّله إلى رمز ومثال. نعم محمود درويش رمز ومثال، وهو لن يستطيع أن يغادر هذه الصورة بشكل نهائي، والأرجح أنه لا يريد ذلك تماماً. لكنه، في الوقت نفسه، مشروع شعري كبير وحيوي. ولأنه حيوي فهو لن يكفّ عن مغادرة نفسه أو جرّها إلى مناطق شعرية مجهولة لقرّائه. وعليهم، إذا كانوا محبّين وموالين حقاً لشعره، أن يصاحبوه في مجاهل أسفاره الشعرية الجديدة. والحال أن هذا ما يحدث فعلاً. بل إن بعض قرّائه باتوا يسبقونه إلى مقاصده ومراميه، ولا يتركون له فسحة كبيرة لكي يتنفّس ويتأمّل صنيعه، بل يطالبونه إما بالمضيّ إلى أرض أخرى وإما بتعميق المكان حيث حفر آخر مرة.
نجح محمود درويش في إغواء شرائح واسعة من قرائه، القدامى منهم والمستجدين، بمواكبة قصيدته التي راحت تتخفف من حمولات سابقة وتثقل بحمولات جديدة. جدّد الشاعر شبابه الشعري وجدّد ذائقة جمهوره أيضاً. لكن السؤال الذي يمكن أن يُطرح هنا هو: ألا تولد جملة الشاعر منذ البداية وترافقه في ممارساته الشعرية التالية؟ أليست نبرة الشاعر جلده وهويته وصوته؟ هل تغيّر محمود درويش في الجوهر؟
لقد سلك درويش طرقاً مختلفة عن الطريق التي اختطّها في بداياته. صعد وانعطف واستدار. تغيّرت عبارته الشعرية. خفتت نبرته. حضرت الهوامش والمهملات والجزئيات في كتابته على حساب المتون والرئيسيات والكليات. انزوى بطل قصيدته القديم، أو، بالأحرى، انكشف هذا البطل عن إنسان صغير وهش وسريع العطب. كائن ينتظر حبيبته، ويحسب تأخّرها بأعصابه كأي عاشق متلف. فلسطين نفسها لم تعد كتلة واحدة. حتى مشهد العدو بات مرئياً من زوايا مختلفة. لقد حدث كل هذا، لكن هل تغيرت المكوّنات الإيقاعية واللغوية والاستعارات في صميمها؟
تطورت قصيدة درويش بخطوات هائلة. صوره وكناياته باتت أقل كلفة معجمية، وصارت تذهب، أكثر فأكثر، إلى مشاغل صغيرة على مستوى المضمون، ولكنها، على صعيد الممارسة الشعرية، أعمق وأكثر احتشاداً في الأعماق.
ما تغير في عمل محمود درويش هو مساحة قماشته وسماكتها وتخريماتها وألوانها وتطريزاتها، لكن هل تغير الخيط الذي يمسكه هذا الحائك الكبير بين أصابعه؟