بيار أبي صعب
في نصّه الشعري الهادر الذي أصدره قبل أشهر عن «دار الريّس»، يعيد محمود درويش ترتيب أوراقه ومفرداته وفصول حياته ولغته الشعريّة. يتخذ الكتابة حيلة أخيرة للمناورة مع الموت، بالقبض عليه ومواجهته وترويضه... والتطهّر منه بالمعنى الإغريقي القديم. والتعاطي معه كحالة مجازيّة وافتراضيّة، كطقس أدبي/مسرحي. ديوانه الجديد «في حضرة الغياب» الذي جاء يوقّعه في بيروت، احتفاليّة لغوية فائرة بالصور والحكايات الحميمة والمحطات العامة.
كيف ندجّن الملاك الأسود الذي يتربّص بنا؟ الموت، تخيّله البولوني الدادائي تاديوش كانتور في مسرحيته ــ الوصيّة «لن أعود أبداً»، امرأة عارية إلا من سواد ملابسها الداخليّة وجوارب الحرير والجناحين طبعاً... وتصوّره الإيطالي لوتشينو فيسكونتي في فيلم «مشهد عائلي» (أو «عنف ولوعة») على شكل دعسات في الطابق العلوي الفارغ، تقلق راحة البروفسور الأرستقراطي المتعب (بورت لانكاستر)، المقيم في عزلة شقته الفخمة مع شبح زوجة ميتة (كلوديا كاردينالي)، تظهر عليه بفستان العرس. في فيلم آخر لفيسكونتي هو «موت في البندقيّة» (عن رواية توماس مان)، يهيم البروفسور (ديرك بوغارد) ترافقه موسيقى غوستاف ماهلر، بحثاً عن سراب الرغبة في ضباب مدينة يجتاحها الوباء، وتلفّها رائحة الموت...
«في حضرة الغياب» يقف درويش على شفير الهاوية، مثل بطل لوحة شهيرة للفنان الألماني كاسبار دايفيد فريدريتش، اتخذها الرومنطيقيون رمزاً وشعاراً: «المتسكع فوق الضباب». ضباب الذاكرة، ضباب اللغة، ضباب الوطن الذي لم يصبح وطناً بعد، ضباب الحياة، هذه الثمرة الشهيّة التي تفلت باستمرار. يرثي محمود نفسه، كما فعل سلفه التميمي البعيد مالك بن الريب («يقولون: لا تبعد وهم يدفنونني/ وأين مكان البعد إلا مكانيا؟»). يبدأ الرثاء من لحظة الفراق مع نفسه، عند برزخ الفجر: “ولنذهبنّ معاً أنا وأنتَ في مسارين: أنتَ إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة (...)، وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرّة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد...”. وها هو يقف وحيداً في حضرة جسده المسجّى، مستعيداً الأحاسيس والأزمنة والمدن، الأسطورة والتاريخ، ومأساة شعبه المتأرجحة بين البطولة والعبث.
كلّ محمود درويش هنا. كل حياته. شعره القديم والجديد. مجموعة «في حضرة الغياب» تشكّل ذروة في مرحلة شعريّة بدأت، أواسط العقد الماضي، مع «سرير الغريبة» (1995) وتواصلت مع ما سمّاه رياض الريّس «الأعمال الجديدة»: «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1999)، «لا تعتذر عمّا فعلت» (2004)، «كزهر اللوز أو أبعد» (2005)...
يستمع المرء إلى صاحب «حبيبتي تنهض من نومها» في «معرض الكتاب» في بيروت، تتنازعه مشاعر متناقضة. فكل عودة جديدة للشاعر إلى المدينة التي صنع بعضاً من ألقها قبل عقدين، مناسبة للاحتفال بدرويش وببيروت. لكن المتعة محاصرة بالخوف، بكل أبعاده الفرديّة والجماعيّة. والغياب يلفّنا هذه الأيام بوشاح قاتم، بمرارة لا تقال... وكم بودّنا أن نتعامل مع شعر درويش في بيروت، الآن وهنا، بصفته تعويذة ضد الموت.