بيار أبي صعب

  • ماهر أبي سـمرا، محــمود حجيـــج، غســان سلهــب والآخرون

    استضاف مهرجان الفيديو الذي نظمته جمعيّة «أشكال ألوان» في بيروت أعمالاً بتوقيع فنانين من مختلف الأجيال والحساسيات، وسلّط الضوء على تلك «الكتابة الجديدة» كنوع فنّي مستقل، له لغته وأدواته... وطرح أكثر من سؤال حول آفاق التعبير عن هول ما جرى الصيف الماضي في لبنان

    جاء فريق تلفزيوني من «المنار» يسأل بحماسة عن أفلام «فيديو أفريل» الذي اختتم أمس في «مسرح المدينة». والفكرة من حيث المبدأ مغرية: تغطية مهرجان الفيديو الأول الذي تنظمه جمعيّة «أشكال ألوان» التي تديرها كريستين طعمة، وتقديم المخرجين المشاركين فيه، ولا سيّما أنّه مخصص لأعمال «تقارب مرحلة حرب تموز (يوليو) 2006 وما بعدها».
    لكن المصادفات شاءت أن يكون أول فيلم يحضره زملاؤنا في «المنار» هو «بصمات ــ 1» (15 دقيقة) للفنان الشاب نديم أصفر. عمل تجريبي صاخب، ذاتي بامتياز، قائم على الفضح والمكاشفة، ينطلق من قصة حبّ مثليّة يعيشها نديم الذي يسجّل يوميّاته خلال حرب تموز الفظيعة. يوميّات ذاتية جداً، وخاصة جداً، لا ترفع شعاراً، ولا تكاد تحدد عدوّاً، ولا تُشغل بما هو خارج دائرة وجود صاحبها الضيّقة: الأصحاب والتجارب والأحاسيس اليوميّة...
    المهم أنّ زملاءنا خرجوا بسرعة من العرض، ولا نعرف إذا كانوا قد واصلوا تغطية المهرجان... لو بدأوا من عمل ماهر أبي سمرا «مجرّد رائحة» (7 دقائق)، لكان الأمر مختلفاً ربّما، علماً أنّ حدّته وعنفه الداخلي أبعد ما يكونان عن وضوح الخطاب السياسي. لو وقعوا على فيديو محمود جحيج «بإمكانك الدخول» (22 دقيقة)، لهان التقاط تلك العلاقة بين «الكتابة» ــ على تجريبيّتها ــ والحدث التاريخي. لو كان شريط غسان سلهب «بعد الموت» (28 دقيقة)، لأمكنت قراءته كعمل على صلة مباشرة بالحرب، علماً أنه بعيد تماماً عن التفاؤل النضالي. أما فيلم زياد عنتر المينيمالي «مدردرة» (سوبر 8 ــ 7 دقائق) الذي يصوّر ببراءة (ظاهريّة فقط!) مثيرة للأعصاب، طريقة تحضير الطبق الشهير، فكيف تشرح علاقته بحرب تمّوز لمن يتوقّع مشاهدة أفلام تنتمي إلى سينما «التحريض والترويج» agitprop، وهي قد تكون فنيّة بامتياز طبعاً...
    سوء التفاهم بين مهرجان «فيديو أفريل» واعلاميين توقعوا مشاهدة أعمال مباشرة تتهم الهمجيّة الاسرائيلية ــ وهي بديهيّة لم يعد يمكن الإبداع أن يكتفي بها ــ يبدو خير مدخل لتناول التجارب المتنوّعة التي اكتشفها الجمهور اللبناني خلال الأيام الماضية (انتاج «أشكال ألوان»، بدعم من المؤسسة الثقافية الأوروبيّة ECF). أعمال لفنانين من أجيال عدّة، ومستويات نضج متفاوتة، يجمع بينها أنها صادمة وخارجة على القوالب، وذاتيّة جدّاً في التعامل مع العدوان الاسرائيلي.
    يصرّ بعض نقاد المدرسة القديمة على محاكمة أعمال الفيديو باعتبارها «نوعاً سينمائياً» ثانويّاً على هامش الفنَ السابع، ويدعي «التمرّد» عليه!... في حين أن كل الأعمال التي عرضت في «مسرح المدينة» خلال الأيام الماضية، تنتمي إلى فنّ آخر لا علاقة له بالسينما، إلا عن طريق قرابة بعيدة طبعاً. وإذا كان لا بد من تمرّد هنا، فهو على تقنيات السرد، وعلى الصورة واحتمالاتها وإمكاناتها. تمرّد ذاتي وتعبيري على العالم كلّه. إنّه فنّ الفيديو.
    «فيديو أفريل» مهرجان الكتابة الأخرى. «يكتب» فنانو الفيديو لغتهم، يستعملون أدوات وتقنيات مختلفة. طريقة صناعة الصورة، وتقديمها، وتركيبها مختلفة هنا... الزاوية التي يختارها كلّ فيديو المتفرّج مختلفة، دائرة انتشاره الأعمال وقنوات توزيعها مختلفة. تأثيرها على المتلقي والعلاقة التي تطمح إلى اقامتها معه مختلفة أيضاً. وكيف لا تتخذ تلك «الكتابة الأخرى» بعداً استفزازيّاً (انقلابياً) أكبر... حين يكون القاسم المشترك لبرنامج المهرجان، هو حرب تمّوز!
    البطولة المطلقة غالباً لضمير المتكلّم. إنه فن الفيديو، مادته غالباً جسد المؤلف، ذاته، محيطه المباشر. كيف تعبّر الذات عن نفسها في حرب تمّوز. لميا جريج سجّلت في «ليال ونهارات» (17 دقيقة) وقائع الحرب، كمن يكتب مذكراته، صوّرت حتى الظلام، وسجّلت الأصوات الخافتة. مثل غسان سلهب، استعملت الصور المتحرّكة للتعبير عن الحرب المباشرة، القصف والقنابل والصواريخ. أدخلتنا إلى عزلتها الحميمة المصنوعة من الخوف والقلق والانتظار واستمرار الحياة. لكنّ عملها لم يأت بجديد يضيف إلى مسيرة لميا الغنيّة في مجال الفيديو.
    أما وائل نور الدين، فقدّم بدوره عملاً على شكل مذكرات أو دفتر سفر. عملاً عنيفاً وصاخباً ــ «نضالياً» على طريقته ــ بعنوان «رحلة تمّوز» (35 دقيقة). فيه الكثير من الخراب وآثار القصف، لقطات زائغة، ومونتاج عصبي على وقع أغنية soleil trahi للثنائي أوسانغ / بيلسن. صوّر الصورة لدى التقاطها، متسلّحاً كعادته بأدوات الكوكايين، وبلغة نزقة تحكي غضب جيل، وضياعه أيضاً.
    في الموقع النقيض يأتي فيديو محمود حجيج علماً أنّه يصوّر هو الآخر نفسه في طريقه إلى الجنوب. في رحلته على خطى الهمجيّة، يلعب لعبة المباشرة، ويتدارى منها في الوقت نفسه. يحتمي من فخّ الواقع، فيصوّر آثار العدوان، وشهادات الناس، من زاوية خاصة. الكاميرا دائماً حيث لا نتوقّعها، في شريط «بإمكانك الدخول». وآثار الغزاة مع الكتابات العبريّة توقّع اللقطات، كما كانت المانشيتات تقطّع المَشاهد لخلق صدمة الوعي، في أفلام غودار النضاليّة. تلتقي كاميرا محمود أناساً عاديين، حكاياتهم تشبه حكايات الضحايا. وعلى أطلال المنزل، يعيد الرجل وامرأته، «عريسا الحرب»، إحياء المكان المهدوم، عن طريق الكلمات حتى التماهي معه.
    ولا شكّ في أن فيلم محمد أبي سمرا «مجرّد رائحة» الذي ينطلق من جملة لجان جينيه في «4 ساعات في شاتيلا»، هو من أقوى لحظات المهرجان. الفيديو بالأبيض والأسود، يقتصد في اللون، يقتصد في الحركة، يقتصد في الكلام... كأنما ليقول هول المجزرة وفظاعة الحداد. لقطات ثابتة وقليلة، فيها من العنف المضمر، والقهر المبطّن ما يتناقض مع الهدوء الظاهري. أهالي قرية جنوبية يبحثون في الأنقاض. تطلع صرخة ملتاعة من مكان مجهول، يواصل الرجال بحثهم عن الموت. لقطة أخرى لبيروت شبه الممحوّة من البحر، من إحدى السفن الآتية لإجلاء الرعايا الأجانب. «رائحة الموت تطبق على أجسادنا، نصبح أمواتاً أو مشاريع أموات»... ربّما قدّم صاحب «دوّار شاتيلا» هنا الشريط «السياسي» الوحيد ــ بالمعنى الأكمل للكلمة ــ في المهرجان.
    أما غسان سلهب فيرثي المدينة في عمله Posthume (ولعلّه الأقرب إلى السينما بين عروض المهرجان). يعيشها بعد موتها من خلال آثار الحرب والدمار، تداعيات وتأملات فلسفيّة، لقطات ثابتة لوجوه مقلقة حائرة أو عدائيّة مطبوعة فوق المشهد أحياناً (ممثلوه الدائمون عوني قواس، كارول عبّود، ربيع مروّة، عبلة خوري، عصام بو خالد، فادي أبي سمرا). البحر وصور التلفزيون وصوت الاذاعة. لقطات لجنود اسرائيليين يتقدمون. الخراب ورفع الردم. الكاميرا تجول في بيروت والضاحية والجنوب. اللقطات تسير إلى الخلف، وتختلط بسواها. يكتب غسان على الصورة أو بمحاذاتها، يطعّم مشاهده بنصوص نادرة تعطي للسؤال الحائر اليائس كل أبعاده: «نحن خارج الزمن، خارج القرن، خارج أنفسنا. كلمات لا يجمعها الا الاستمرار بالغرق. الوقت عندما يفقد طبيعته، نفقد نحن علاقتنا معه». وينتهي الفيلم فبل أن تنتهي الرحلة.
    «ولكن كيف للأموات أن يشاهدوا موتهم؟»، يسأل سلهب الذي يبني عمله على مستويات سرد متعددة. ويطرح عمله، ككثير من الأعمال الأخرى سؤالاً لعلّه الشعار غير المنظور لمهرجان «أشكال ألوان»» كيف نصوّر الفاجعة؟ كيف نرويها؟ وهل تتسع الصورة للحقيقة... أم انها ذاتيّة بامتياز؟ ولأنها ذاتيّة نقبل عليها، باحثين بين طيّاتها، عن ذواتنا المطعونة؟