القاهرة ـــ وائل عبد الفتاح
  • نادم على عمر أضاعه في مطبخ الصحافة الثقافية

    جمال الغيطاني يسابق الزمن. في كتابه الجديد، يستعيد الأديب المصري قصر المسافر خانه الفاطمي الذي التهمته النيران في القاهرة قبل سنوات. «العالم يضيع... وأنا أيضاً»، يبوح صاحب «الزينة بركات»، مستنجداً بالكتابة لإنقاذ عالم في مهبّ التحوّلات

    الكتابة عن جمال الغيطاني صعبة. الاقتراب منه يقودك إلى لعبة تجاذب مركّب بين قطبين وموقعين: الأسهل هو اختيار موقع الهجوم، فهو هدف تقليدي للغاضبين من المؤسسة الثقافية الرسمية، إذ يرونه أحد أبرز «النجوم» الذين يعيشون في نعيمها. لكنّه من وجهة نظر مناقضة «لاعب ماهر»، ينقذ المؤسسة من قلبها، ويشكّل عبر رئاسته لتحرير الصحيفة الأدبية الأسبوعية الوحيدة في العالم العربي «أخبار الأدب» خطّ دفاع متقدماً. ولولا هذا المنبر لحُرمت الثقافة في مصر نافذتها اليتيمة على العالم.
    لا مفرّ من التجاذب حتى في مناقشة كتابه الأخير: «استعادة المسافر خانه: محاولة للبناء من الذاكرة» (دار الشروق). لماذا كتبَ عن ذلك الأثر الإسلامي الفريد في القاهرة الفاطمية؟ نوستالجيا؟ أم غرام مفرط بالآثار الإسلامية؟ أم جولة جديدة في معركته الدائمة ضدّ وزارة الثقافة وإمبراطورها فاروق حسني؟ يقاوم الغيطاني ابتسامة قبل أن يجيب: «كتابي كلّ ما قلتَه... باستثناء الشق الذي يتعلّق بالوزارة. الموضوع أكبر من سياسات تلك الوزارة التي أدّت إلى حريق المسافر خانه، أحد أجمل مخلفات التراث المعماري للقاهرة القديمة. المسألة تتعلق بأنّ هناك حياة كاملة تختفي. أماكن ذاكرتي تختفي. أنا تربيت في تلك المنطقة واستمتعت بعمارتها الرائعة. ووقع على خبر حريق قصر المسافر خانه (1998) موقع الصدمة، أو الكارثة».
    لكنّ صاحب «الخطوط الفاصلة» لا ينكر أنّه غارق في النوستالجيا. يقول: «طبعاً، يساورني شعور في السنوات الأخيرة بأنّ العالم يضيع وأنا أيضاً». هي ليست نوستالجيا على المستوى الثقافي والحنين إلى الزمن الجميل فقط، بل ضياع معبّر عنه بشكل مختلف، تتجلّى ملامحه في كتاب آخر هو «أيّام الحصر» الذي حكى فيه يوميات عمليّة البروستات. وهو في الحالتين يحاول اللحاق بالزمن الذى يتسرب أمام عينيه. يقول: «في المسافر خانه، احترق جزء من ذاكرتي. وفي ألم الحصر، عشت تجرية دراماتيكية عنيفة، لم يكتبها أحد قبلاً لأنّها غامضة. أصبحت كتابة الألم ظاهرة في الفترة الأخيرة، علماً بأنّ كتّاب مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم مروا بتجربة المرض ولم يكتبوها. أنا كتبت قبلاً تجربة اقترابي من حافة الموت في عملية قلب مفتوح. أفكّر الآن في جمع هذه التجارب الثلاث في كتاب الألم».
    هنا تبدو مقولة العالم والمؤرخ والأديب شهاب الدين القلقشندي في مؤلفه الشهير «صبح الأعشى» (الكلام في منزلة الهواء يمكن أن يُفنى ما لم تقيده الكتابة)، إشارةً إلى أنّ الغيطاني في سباق مع الزمن أو كما يقول: «الكتابة هي الوعاء الذي يحفظ الذاكرة. وأنا بلغت المحطة ما قبل الأخيرة ولدي مشاريع كثيرة للكتابة».
    ويصر بنبرة ألم: «اكتشفت أنّ هناك عوامل خارجية تدمر ما كنت أتصّور أنّه لا يدمر. كل الأماكن القديمة في العالم العربي هي مراكز الذاكرة، لكنّها تخضع اليوم لمفاهيم جديدة في التطوير، أقرب إلى السياحة والاستثمار، وأنا بالكتابة أحاول تسجيل واقع يتغير ويضيع». لكنها كتابة تقع في أسر تقديس اللحظة الغابرة وتصنيم للماضي! لم تعجبه الملاحظة. «كل مفقود عزيز. وأعرف أيضاً أنّ الحنين مسألة متعلقة بالزمن. وأنا قضيّتي هي الزمن، والوعي بالزمن يقودك إلى الأطلال. قد يكون المستقبل أفضل، لكنّني أرى عالماً ينهار. وهذا العالم أرحم من العالم الجديد الذي يحلّ مكانه».
    لكن هل هذه النوستالجيا قناع للهروب من جحيم صراع يومي مع «المؤسسة»؟ يتهيأ إلى كثيرين أنّ الغيطاني يحاول العثور على موقع في بناء المؤسسة الضخم، بعيداً عن التصادم مع مداراتها الكبرى. يجيب: «إذا قصدتَ المؤسسة العامة كدولة، أنا ضد المؤسسة، لكنّني لا أطرح نفسي نقيضاً لها. أُسند إليّ موقع فيها أدرتُه بنزاهة. هذه هي القضية وضميري مرتاح».
    ونسأله: لكنّك في الستينيات طرحتَ نفسك نقيضاً للمؤسسة وصولاً إلى المعتقل (1964)، من أين تنبع حالة الرضا عن المؤسسة؟ يجيب: «لو كانت هناك حالة رضا لما كتبت. الكتابة ابنة الشعور بالتناقض بين ما هو قائم وما يجب أن يكون». ويواصل: «زمني قارب على النفاد. وعندي مشاريع كثيرة، لكني مضطر إلى أن أضيع هنا ساعات ثمينة (يشير إلى عمله في «أخبار الأدب»). وهذا يشعرني بالحسرة، وخصوصاً عندما أتأمل الحياة الثقافية. تأمَّل المسؤولين عن الحياة الثقافية. اُنظرْ إلى قصورهم، فيما نحتاج إلى توجيه أكثر من نداء للحصول على مساعدة الدولة لعلاج الروائي إبراهيم أصلان. هذا الزمن يلتهم أثمن ما تملكه الأمة، أي مواهب أبنائها».
    هل كان الغيطاني يحقق النجاح نفسه لو أنّه خارج المؤسسة؟ يجيب: «أنا بدأت الصحافة مراسلاً حربياً، لم أدخلها كاتباً مثل يوسف إدريس أو توفيق الحكيم. حتى هذه اللحظة، أعمل في مطابخ الصحافة. من السهل أن يقولوا إنّ الغيطاني أفاد من رئاسة تحرير «أخبار الأدب». لكنّ الحقيقة أنّني خسرت، وربما كان تقويم أعمالي مختلفاً لو لم أكن في هذا الموقع. كما أنّني الأديب الوحيد الذي شُنّت عليه حملات صحافية شرسة. أنا نادم على كل تلك السنوات في الصحافة الثقافية. فلو كنت خصّصتها لكتابتي الخاصة، لكان الأمر أكثر جدوى».
    أصدر الغيطاني كتابين بعنوان «حكايات المؤسسة»، على شكل هجاء طويل لشخصيات وأحداث اعتبر حسب تأويل النص أنّها وقعت في المؤسسة الصحافية التي يعمل فيها. كما طالت معركته مع وزير الثقافة فاروق حسني، بعد أن كانت تربطهما علاقة صداقة. من هنا، إن أعداء الغيطاني يرونها «معركة شخصية». فهل الفساد في المؤسسة أم في الشخص الذي يديرها؟ يجيب: «في مصر المؤسسة هي الشخص الذى يديرها. أغلب مؤسسات مصر تخضع للشخصنة، وهي فكرة مملوكية أساساً».
    في كتاباته الأخيرة، يبدو الغيطاني «جريئاً» متحرراً من سطوة أسلوبه الذي تحوّل إلى ماركة مسجلة: «قررت في «المسافر خانه» الدخول في كتابة لا تخضع لتصنيف، بل تفرض أسلوبها عليك. تحرّرتُ من القارئ. أكتب الآن لمن يفهمني. أذكر عندما صدرت «الزيني بركات» عام 1969، قيل لي إنّ الشكل صعب على القارئ. كيف سيقرأ رواية غير اعتيادية؟ أرى اليوم أنّ المبدع الحقيقي يكتب ما هو غير اعتيادي، من دون أن يقفز في الفراغ. التنازلات الفنية بحجة الوصول للقارئ كارثة صنعتها الواقعية الاشتراكية. وتخلّصتُ منها. لم أتخلّص من الاشتراكية، بل من التنازل الفني من أجل الجماهير. لكي تصل إلى الجماهير لا بد أن تبدأ من كتابة جيدة».
    اكتشاف يبدو متأخراً، لكنه يرتبط بفكرة أكبر يشرحها الغيطاني على مهل: «عندما تأسست الرواية العربية الحديثة في القرن التاسع عشر متأثرة بجيمس جويس، خرجت عن المسار الطبيعي الذي عادت إليه مع روايات الفلسطيني إميل حبيبي والتونسي محمود المسعدي و... جمال الغيطاني. نجيب محفوظ نفسه تأثر بهذا التيار الجديد وكتب «الحرافيش» و«ألف ليلة» وصولاً إلى «الأحلام»».
    رأيٌ قد يحوي نرجسية ما، لكن الغيطاني يؤكد: «هذا رأي كتبه صاحب نوبل ج. م. كويتزي، وأطرحه من جديد بحذر. أعتقد بأنّ استفادة محفوظ من هذا التيار هو دليل حيوية عندما اختار أن يكتب «الأحلام»، تلك النصوص الضامرة التي تشبه الحكمة، وتناسب حالة جسده بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها».