strong> عبد الغني طليس
ليس كلاماً في السياسة: هناك مؤسسة شبه وحيدة (بين المؤسسات الرسمية في لبنان)، استطاعت العودة إلى السكة السوية، بفضل جهد رجل واحد... الرجل هو الدكتور وليد غلمية، والمؤسسة هي الكونسرفاتوار الوطني.
هناك عداء يكاد يكون مطلقاً بين العقلية التي تدير مؤسسات رسمية، والتنظيم العصري المبني على كفاءات حقيقية. والسمة الأولى التي تقال عن مؤسسة رسمية أنها تعجّ بالفوضى، المحسوبيات، والصفقات. لكن وليد غلمية غيّر المعادلة. أعاد الأمور إلى نصابها، بعد كل ما لحق بها من «تقاليد» لبنانية سياسية بالأساس، واجتماعية بعد ذلك، لا تعترف بالبُنى التنظيمية التي يمكن أن تخرج مؤسسة ما من حالة الغابة إلى حالة القانون، ومن «مبادئ» الاستفادة الشخصية الى مبادئ الاستفادة الوطنية. حقاً، قال غلمية: «الأمر لي». وشرع يضع الخطط غير الخيالية بل الواقعية التي يستطيع تنفيذها، مقفلاً الباب أمام جميع التدخلات الأخرى. هكذا، خلال عدد قليل من السنوات، بتنا في لبنان نجاهر وندّعي ونعترف ونكاد نصدق ولا نصدق أن لدينا معهداً موسيقياً يرفع الرأس أساتذةً وطلبةً وإدارة...
قبل أن يفكر وليد غلمية ــ مجرد التفكير ــ في إقامة حفلات موسيقية دورية يشهد لها الرقي والاحتراف معاً، كان لا بدّ من الثورة. الثورة على الحجر الذي كان اسمه كونسرفاتوار، والثورة على طبيعة العمل ومستواه وأفكاره. وببعض المال الذي كان قليلاً جداً قياساً إلى مردوده الأكاديمي الغني الجميل، تمكّن غلمية من أن يبدأ الحفر في الصخر. قلّة صدقت أن ذلك الخراب الذي يسمونه «كونسرفاتوار» مجازاً في لبنان، يمكن أن ينهض من جديد ويقف على رجليه! لكن الرؤية العلمية لا الفنية فقط التي يتمتع بها غلمية، جعلت الحلم واقعاً زاهياً: أولاً، أساتذة من دول شرقية وغربية، يملكون مهارات إبداعية جادة، جاؤوا الى لبنان مقيمين، يسلّحون شبابه بخبرات استثنائية. ثانياً، طلبة قدّمت لهم إمكانات تعليمية عالية، وإغراءات معنوية، وضمانات عملية ومهنية مدروسة. وثالثاً، نظام تعليمي استند الى أنظمة مشابهة في بلدان كبرى، فخرّج نفراً من الأساتذة الكبار، أصحاب النظرة العليا الى الموسيقى. وبعد كل هذا التعب والاجتهاد بل الجهاد كان لا بد من إعلان الإنجاز عبر حفلات موسيقية متقنة الشكل والمضمون والجمهور معاً. أعدّ الكونسرفاتوار أجيالاً تعنى بالموسيقى الصحيحة بعدما كادت (الموسيقى) أن تصبح لحن أغنية نطناطاً لا أكثر في أذهان الكثيرين، وبات المعهد يؤدي دوراً رئيساً في الحياة الموسيقية اللبنانية. وليد غلمية أخذته إدارة المعهد من حالة تأليف الموسيقى، بعدما كانت شاغله الوحيد، وتحديداً التأليف السيمفوني، لكنه لم يُضِع شيئاً في سيرته الموسيقية الذاتية الناجحة، لأن بناء المؤسسة بالشكل الذي بناه، يكاد يكون أجمل سيمفونية ثقافية في لبنان بين نهاية القرن الماضي وبداية القرن الجديد. وإذا كان الخاص الفني للموسيقي (التأليف السيمفوني) يصير عاماً حين يصل الى الناس، فإن المؤسسة العامة الراقية التي رفعها غلمية للوطن، ستسجل في رصيده الموسيقي الخاص أيضاً، والواصل الى الناس قطافاً ناضجاً. والخاص هنا عام... كالماء الجارية.