نور خالد
  • تحريــر الشــرق يبــدأ مـن دبــي هــذا المســاء

    قرية كاملة تحترق كلّ ليلة، خيول هاشلة على المسرح، منجنيق حقيقي يطلق نيراناً حقيقية. إننا في دبي حيث يفتتح «الرحابنة» استعراضهم الضخم هذا المساء. إننا في تدمر حيث وقفت «زنوبيا» (كارول سماحة) تواجه طاغية روما (أنطوان كرباج). لكن حذار، حذار من الإسقاطات السياسيّة!

    اختبار آخر لمسرح منصور الرحباني، ووراءه حكومة دبي. هو اختبار في مواجهة المسرح نفسه، في علاقة الخشبة بالراهن، وذوق الجمهور والثقافة التاريخية لجيل لا يقرأ، وينهل معارفه من الإنتاجات الهوليووديّة.
    مسرحيّة «زنوبيا» التي أبصرت نواتها الأولى النور عام 1971، على شكل «اسكتش» أدّته فيروز ضمن مسرحية «ناس من ورق» خلال «معرض دمشق الدولي»، تتّسع لكل أنواع الإسقاط السياسي، على خلفيّة تمتدّ من روما القديمة إلى القوى الاستعماريّة الجديدة. لكنّ الجمهور اللبناني لن يكون أول من يشاهد آخر إبداعات منصور وأبنائه. فالعائلة الرحبانيّة اختارت لها فضاءً آخر هو... دبي، لإطلاق آخر مبتكراتها! لماذا تكرار تجربة «المتنبّي»، علماً أن الظرف السياسي مختلف اليوم عمّا كان عليه عام 2001؟ الإجابة مشروع طويل وشائك يبدأ من الإغراءات الإنتاجيّة على الأرجح. المهمّ، أنّ مسرح «مدينة دبي للاستديوهات» (وهو أضخم مسرح في الشرق الأوسط إذ تبلغ مساحته 70 ألف متر) يحتضن، مساء اليوم، العرض العالمي الأوّل لـ«زنوبيا» الجديدة. وتتواصل العروض هناك حتى 23 نيسان.
    هذه المرة، كارول سماحة هي «زنوبيا»، ملكة تدمر التي صار بلاطها ملتقى الشعراء والفلاسفة وملجأ للمضطهدين. ومن ذلك البلاط، انطلقت شرارة التمرّد الأولى ضد الإمبراطورية الرومانية. وقفت زنوبيا في مواجهة أورليانوس قيصر روما (أنطوان كرباج)، لتحرّر الشرق من سلاسل العبودية والظلم والطغيان. ولعلّها تقدّم اليوم صورة نموذجيّة لـ«مقاومة» المشروع الأميركي الحالي في المنطقة... علماً أن الرحابنة تبرّأوا سلفاً من أي إسقاط سياسي، في مؤتمرهم الصحافي قبل أيّام.
    منصور الرحباني وأولاده الثلاثة مروان وغدي وأسامة، ومعهم كارول سماحة وغسان صليبا، وأكثر من 130 ممثلاً، سيقولون كلمتهم عن السلاسل والعبيد، والرأس المرفوع بـ«لا» تصدح في وجه الطغيان، في لحظة تجسّد التمادي الأقصى لهذا الطغيان. يقولون ولا يقولون، لأنّ حكومة دبي، حين تموّل المسرحيّة بأكثر من ثلاثة ملايين دولار حسب مصادر مقرّبة من الإنتاج، لا تحبّذ بالضرورة مواقف سياسية قاطعة وصريحة في هذا الزمن الحرج! بعدما صارت قوّة اقتصاديّة ضاربة، تسعى الإمارة الخليجيّة إلى إرساء مكانة ثقافية. لم تعد تكتفي بدور سنغافورة الشرق، بل تطمح إلى أخذ دور بيروت والقاهرة ومراكش. أما الرحابنة، فيريدون فقط مسرحاً بحدوده الإنتاجية القصوى. مروان الرحباني مخرج العرض قال «إنها مسؤولية الجمهور أن يستخلص ما يريده من العبر السياسيّة»، أي على طريقة بيرندللو «لكلّ حقيقته»! وزايَدَ غدي: «روما هي روما، ولسنا بحاجة لنحكّ رؤوسنا كي نعرف من المحتل ومن المقاوم». أما أسامة فاكتفى بالتذكير بأن: «مسرح الرحابنة طوال عمره سياسي». وكانت الكلمة الأخيرة لأنطوان كرباج: «يقولون إنّ التاريخ يعيد نفسه. نقدّم هذه المسرحية لكي يتّعظ من يريد. ولكي لا يعيد التاريخ نفسه».
    إذاً، الجانب الفنّي هو المهم الآن. فمروان الرحباني تستهويه فكرة إحراق مجسّم كامل لقرية، كلّ يوم من أيام العرض. أن تسرح الخيول على المسرح، ويطلق المنجنيق الحقيقي نيراناً حقيقية. إنّه مشروع يشتهيه كل مخرج. أن يكون المال دفّاقاً كي يصل الإبداع الى طاقاته النهائية. هكذا، في مكتب صغير على طريق الشيخ زايد يحمل لافتة كتب عليها: «الرحباني بروداكشن»، تصافح الطرفان. «بروداكشن» هي الكلمة الأكثر انتشاراً في دبي بعد آل مكتوم. لكنّه الرهان عينه الذي قد يضع المسرح في مأزقه. أن يشجّع ذلك الإسراف الإنتاجي على الإبهار الاستعراضي الذي يقتل المسرح. أليس المسرح تلك المساحة الحميمة المتقشّفة حيث تتألق الكلمات العارية، والجسد المفرد؟ إنّه الفخ الذي ينصبه لنا «الرحابنة» (فرع منصور) أحياناً، إذ تورّطهم الحماسة فيحولون حكايات «المتنبي» و«جبران» و«الرعيان» و... «سقراط» الى استعراضات تليق بكركلا، أكثر مما تليق بمسرح. هذا توصيف يحتمل، وإلا كيف نفسّر ذلك الاستهلاك السريع والعابر لأعمال منصور وأبنائه في السنوات الماضية؟ استهلاك لا يتيح لنا أن نخزّن أغاني المسرحيات، كما في زمن تلاقي الثلاثي عاصي ومنصور وفيروز.
    أمر آخر، يستوقفنا ونحن على عتبة تدمر الليلة في دبي. هو هذا الجهد المنظم ــــ وإن رفض أصحابه الاعتراف بذلك ــــ لإنتاج أعمال فنية تخوض المواجهة العربية ضد المشروع الهوليوودي. خط التماس هو التاريخ. المنتصر يكتب التاريخ. هوليوود، الذراع الأقوى لهيمنة أميركا، تكتب تاريخنا، كما تاريخ ثقافات العالم. أبناؤنا يعرفون عبر أفلام هوليوود، كل شيء عن صلاح الدين وحضارة الفرس وبطولات طروادة وثقافة الساموراي و«انتصارات» يابانيي بيرل هاربر وتاريخ إفريقيا. لكنّهم لا يعرفون شيئاً. تسألهم عن صلاح الدين، فيروون فيلم البريطاني ريدلي سكوت «مملكة السماء». فارس القديمة، يعرفونها عبر فيلم «300» الذي زوّر فصلاً كاملاً من التاريخ.
    المنتصر يكتب التاريخ، لكن على بعد أميال من تلك الاستوديوهات، يجلس منصور الرحباني في غرفته الصغيرة ويكتب تاريخنا، البطولات والإخفاقات، العبرة والاعتبار. لا ينتظر يوم تهجم عصابة الشر اليميني المتطرف على زنوبيا، فيغتصبونها ألف مرة، لأنها قالت «لا» في وجه روما. يروي سيرة جبران والمتنبي، قبل أن تجهز عليهما سينما الغرب، فتحيلهما أبطالاً يمجّدون الغرب، لدوافع «أخلاقية» تتعلق بنشر الديموقراطية والتحرر.
    منصور الرحباني، يواجه هذا المشروع، على رغم أنه لا يريد أن يفصح عن ذلك. إفصاحه قد يحرجه أمام ماكينة الإنتاج. لكنّنا نعرف أنّه يصنع مسرحاً مفتوحاً على كل أنواع التأويل. عسى مسرحه الذي يغرف من تاريخ العرب، أن يؤثّر في جيل الشباب، ويساهم في تشكيل وعيه.
    «في عربتي المذهبة أذهب، وفي عنقي أضع السلاسل الذهبية»، سيصدح صوت زنوبيا في فضاء خليجي مذهّب هذا المساء. وسيرد أورليانوس قيصر روما: «تدمر التي انكسرت، وروما التي انتصرت هما غداً في الآواتي من الأيام حجارة وأعمدة محطمة. وأنا وأنت تمثالان في متحف. فلا جيش روما ولا كل روما في الدهر، بإمكانها أن تُسكِت بعد الآن هذه الصرخة»!