strong>بيسان طي
يحمل الطفل البالغ من العمر سنتين علبة بسكويت، يمدها لمن يريد أن يأكل معه. يمر أمام الكاميرا لثانية واحدة أرّخت لحياة انتهت بعد دقائق... شعره كان أشقر، وعيناه واسعتان، وكان له اسم. صار منذ 11 سنة من شهداء مجزرة قانا الأولى، وأصبح له قبر بين قبورهم.
إنها الصورة. المجزرة تلك عُرفت بالصورة، وتستعاد بالعدسة. الإيراني نور الدين ميرزاده مرّ بخيمة القوة الفيجية في قوات الطوارئ في بلدة قانا الجنوبية قبل وقوع المجزرة بدقائق. صوّر الأحياء الذين ظنوا أنهم في أمان ما دام علم الأمم المتحدة يرفرف فوق مبنى لجأوا إليه. كانوا يتحدثون ويضحكون ويتسامرون ويدخنون ويلعبون ويأكلون، وبعد دقائق صاروا أشلاء وجثثاً متفحّمة أو مقطّعة. قبل المجزرة وبعدها، كانت كاميرا ميرزاده في «المخيم». غاب المخرج عشر سنوات، غرق خلالها في صور الفيديو الملتقطة للمكان. لكنه قرر أن يضع حداً للقلق الذي يجتاحه، وأن يعود إلى مكان المجزرة، يبحث عن ناجين التقطتهم عدسته قبل أن تقع 35 قذيفة على أحد مباني القوة الفيجية... عاد ليبحث عن سر الثقب الذي صوره في سقف المبنى قبيل المجزرة.
بدأ الفيلم الوثائقي «قانا» الذي بثّته قناة «المنار» مساء أول من أمس بمقابلة مع المصورة اللبنانية نجلاء أبو جهجه التي صوّرت مجزرة المنصوري. قالت كيف شاهدت أباً يحمل أولاده ويركض بهم بحثاً عن النجاة، وكيف صوّرت شهداء المجزرة في سيارة الإسعاف. ثم انتقل المخرج بالمشاهد إلى استديو خاص به في إيران حيث تقبع أشرطة فيديو عن مجزرة قانا. يروي هناك كيف حاصرته الصور طوال عشر سنوات، فقرر عام 2006 أن يعود إلى لبنان.
يزخر الفيلم بالمعطيات عن المجزرة، بالقصص المؤلمة، وبمقابلات مع مصورين ومسعفين أنقذوا أطفالاً أو انهاروا أمام هول المشهد الدامي. التقى المخرج أهالي الضحايا، والخبير العسكري وليد سكرية الذي أشار إلى أن القنابل التي رميت على المبنى يمكن التحكم بها بالليزر. هكذا، نجح ميرزاده في إثارة الشكوك حول مفتعل الثقب في سقف المبنى، وإمكانية تورط أعضاء القوة الفيجية أو آخرين في مساعدة الاسرائيليين على ارتكاب هذه المجزرة. لم يغفل المخرج الإيراني أي تفصيل، فقدّم فيلماً وثائقياً جيد الإعداد ومكتمل العناصر. لكنه لم يكترث للجانب الإبداعي في العمل، لم يقدم فيلمه كعمل فني، ولم يصُغ السيناريو الذي يليق بالموضوع الذي اختاره وبالمادة الإعلامية التي يملكها.
على رغم ذلك أبكانا الفيلم. إنها الصور التي تحاصرنا، عادت ليكون حضورها أقوى من سنوات تفصلنا عن لحظة وقوعها... قانا المجزرة الأولى أقوى من قدرتنا على النسيان، هذا ما ذكّرنا به الفيلم. قدم الصور والشهادات التي جعلتنا نشعر بأن دقائق قليلة أو أياماً معدودة فقط هي التي تبعدنا عن المجزرة. هذه الصور تحديداً تستحق أن تقدم ضمن رؤية مشهدية ولغة تنحاز إلى الفن الذي يخاطب المشاعر من خلال الحقائق، ويعرف كيف يسكبها في قالب من الإبداع مستفيداً من كل العناصر الموسيقية والتصويرية.