أمل الأندري
في «اختلاس» يصوّر هاني نقشبندي تناقضات المجتمع السعودي. يفضح الفصام الذي يعيشه الرجل الشرقي، بين وعي ذكوري يحتقر المرأة وخطاب «عصري» يدّعي الانفتاح والتحرّر. رواية «فضائحية» أم صرخة تمرّد تعلن ولادة كاتب؟

هل يمكن وصف رواية هاني نقشبندي الجديدة بالـ«فضائحية»؟ فالإعلامي السعودي المعروف الذي اختار نهائيّاً حرفة الأدب، يفضح في باكورته «اختلاس» جملة من الممارسات التي تدور خلف الأبواب الموصدة، داخل جدران المنازل في مجتمع مكبوت، تمزّقه التناقضات، ويعيش في حالة فصام متواصلة... وهنا لا مفرّ من الجنس ولو ببعض الجرعات. فهل نُدرج الرواية ضمن «موجة» الأعمال السعودية التي أثارت النقاش في الفترة الأخيرة؟
إنّ قراءة متأنيّة لـ«اختلاس» الصادرة حديثاً عن «دار الساقي» (طبعة ثالثة خلال أشهر)، تكشف عن مشروع روائي واسع، قد لا تكون «الإثارة» محرّكه الأساسي. الرواية قبل أي شيء نوع من التطهّر من حالة فصام يعيشها الرجل السعودي الذي نشأ على الحذر من الآخر، «الفاسد» و«الكافر». يوجّه الكاتب إصبع الاتهام إلى السلطة، بمؤسساتها الدينية والسياسية التي تشجّع على العنصرية ورفض الآخر المختلف عرقياً أو دينياً. وهناك ما هو أخطر: التواطؤ بين السلطة وبعض الطبقات الميسورة والنافذة في المجتمع، للتستّر على ممارسات متفلّتة من القيود التي وضعتها تلك السلطة نفسها وباتت أسيرتها: «عشرات الراقصات شبه عاريات في بيوت للنخبة، لا يجرؤ أحد على اقتحامها. حتى المطاوعة ما كانوا يجرؤون لو علموا». ربّما لهذه الأسباب، تحفّظت الرقابة اللبنانية على الرواية معتبرةً أنّها تسيء إلى دولة صديقة فيما «اختلاس» الآن في طريقها إلى القارئ الفرنسي، عن دار باريسيّة شهيرة.
بطل الرواية هشام يستعير بعض ملامحه من المؤلف. إعلامي سعودي يرأس تحرير مجلة نسائية تصدر من لندن. يستوحي الكاتب بعضاً من سيرته الخاصة، ليوظفها في سياق درامي متخيّل.
تفضح «اختلاس» التناقض والازدواجية في المجتمع السعودي، والعربي بشكل عام. ويعترف الكاتب على لسان بطله، أنّه أسهم في ترسيخ هذا النظام الذي يؤلّه الرجل/السلطة، وذلك من باب المحافظة على امتيازاته... فالرجل لا يقبل بأي تغيير يهدّد امتيازاته الذكوريّة: «كلّكم تريدون أن تكونوا هارون الرشيد... تاريخنا العربي ليس أكثر من قصص نساء ودماء تتبعثر من أجلهن».
تقتحم حياة هشام اللندنيّة قارئة بعيدة اسمها سارة. شابة سعودية مثقفة من عائلة محافظة، تزوجت باكراً من رجل ميسور، ولها ولدان. منذ الفصل الأوّل، نشعر بالثقل والفراغ اللذين يخيّمان على حياتها المحاصرة بالقمع والكبت. سارة المتعلّمة ترتدي ثيابها المثيرة في غياب زوجها فقط، وتبقى وحدها برفقة... شوبان. إنها امرأة تعيش ثورتها الخاصة على مجتمعها. تعي تناقضاته وتتمرّد قدر الإمكان، تقاوم وحدها هذا الكمّ الهائل من العادات المتوارثة، وفي رأيها أنّ الإسلام منها براء. آخر شيء ثارت عليه هو الحجاب الذي تعتبره «مسألة عرف وعادة لا أكثر»، ويدرج في خانة التقاليد التي يصر الأهل على إحيائها في زمن ليس زمنها، وإلا «لماذا يسمحون لي أن أكشف عن وجهي عندما أسافر إلى خارج السعودية حيث لا تراني العيون الغريبة؟».
تقع سارة على عنوان مثير عن «الخيانة الزوجية». لكنّ التحقيق، بدلاً من أن يفضح الممارسات المخفية في مجتمعها، يأتي باهتاً، خلاصته أنّ «الخيانة الزوجية ليست من عادات مجتمعنا السعودي الإسلامي... لكننا نقدّمه لقارئنا من باب التوعية لما هو متفشٍّ في المجتمعات الغربية من بلاء»! يستفزّها الأمر، فتقرّر أن تكتب رسالة عتب مطوّلة الى رئيس تحرير المجلة الذي ليس سوى... هشام، بطلنا المقيم على الضفة الأخرى.
في لندن نكتشف أن هشام الذي اختار مهنة الصحافة مصادفةً، ما زال يعيش تحت وطأة تقاليد بائدة تربّى عليها. لم تفلح لندن في تغييره، لذا يعيش في حالة من الازدواجية. النساء لا يبغي منهن سوى لحظات عابرة في السرير، على رغم أنّه يكتب دوماً عن حرية المرأة ومساواتها مع الرجل. ألم يتعلّم في السعودية أنّ «المرأة ناقصة عقل ودين»؟ وأنّها ــــ خلافاً للرجل ـــ «تحيض وتلد وتخطئ»؟ هذا كل ما يعرفه هشام عن المرأة. ولهذا السبب، عندما تصله الرسالة المعاتبة التي تقول فيها سارة إن الخيانة موجودة في السعودية، «لكنّكم غضضتم الطرف عنها»، لا تستوقف هشام سوى جملة واحدة لسارة هي أنّها على قدر من الجمال وعاشت تجربة الخيانة. «المرأة التي تخون مرة» يمكنها معاودة التجربة يفكّر، فلمَ لا تكون ضحيّته المقبلة؟ ما لا يعرفه هشام، أنّه ضحيّة مثلها، على رغم الفرق الشاسع بينهما. هو مرتاح لموقع الجلاد حتى في لندن، علماً أنّه ضحيّة التخلّف نفسه. أما هي، فقرّرت التمرّد. إنّها تقاوم من الداخل.
مساران مختلفان يتقاطعان من خلال تسع رسائل تبعثها سارة الى هشام. نتعرّف بحياتها وحكايات صديقاتها الرازحات تحت نير الممارسات الذكورية التي تبيحها القوانين السائدة. تكشف لنا الرسائل كل الممارسات الجائرة التي تُرتكب في حقّ المرأة، باسم الدين. فيما نشاهد على الضفة الأخرى مغامرات هشام العاطفية، وحيله مع النساء.
الرسالة الأولى التي تبعثها سارة يجثّ منها هشام ما لا يسمح به الرقيب ثم ينشرها. فهاجس الرقيب يسكنه حتى من لندن، إلى درجة يخاله جالساً معه خلال اجتماعات التحرير. والغريب أن الرقيب الذي يقبض على أنفاس الرجل «المتحرر» في لندن، لا يشغل بال سارة، في قلب بيئتها المحافظة. وشيئاً فشيئاً، سيتحرّر هشام من ذكوريته بفضل سارة، ويتمرّد على سطوة الرقيب. نعم، طيف سارة طرد الرقيب من اجتماعات التحرير، وحلّ مكانه. صار رئيس التحرير يأخذ قرارات «متهوّرة»، ويختار تحقيقات جريئة...
لا تتضمّن الرواية أي مشهد جنسي نافر، بل مشاهد وظّفت بمهارة في خدمة السياق، لتفصح عن الخلفية الفكرية والثقافية للشخصيات. كتب هاني نقشبندي نصّه بأسلوب أقرب إلى اللغة اليوميّة، بعيداً من مشاغل الأدب والتنميق الأسلوبي، والبنى السرديّة المعقّدة. من هنا «اختلاس» رواية مضمون أولاً. رحلة بين حياة هشام وسارة، عبر مشاهد سينمائيّة. إنّها رحلة تحوُّل رجل «شرقي» من جلاد إلى إنسان، كأننا بهاني وسارة أيضاً يقولان لنا، إن الثورة الحقيقيّة تبدأ من الداخل!

يوقّع هاني نقشبندي روايته غداً السبت في بيروت، ضمن فعاليات «معرض الكتاب»، وذلك بين السادسة والثامنة مساء، في جناح «دار الساقي».