strong>فرح داغر
تغيّر لبنان كثيراً منذ عرض فيلم «البوسطة»، للمرّة الأولى، منذ سنتين. تفجيرات واغتيالات سياسية، فاعتصامات وتوتّر طائفي لا مثيل له. ربما أصيب المخرج فيليب عرقتنجي بإحباط، وهو يتابع ما آلت إليه الأمور في بلده. وربما لم يفعل. لكنّه في مجمل الأحوال، توقف قليلاً ليتأمل هذا الحلم الذي كلّما اكتملت ألوانه، استحال كابوساً. حلم عرقتنجي ببوسطة مزخرفة، تحمل شباناً لبنانيين محبّين للحياة، يرقصون ويغنّون، تبخّر بلا شك...
فيلم «البوسطة» الذي يعدّ أول أفلام عرقتنجي الطويلة، يتناول قصة لقاء بين أصدقاء الطفولة (شارك فيه رودني حدّاد، عمر راجح، نادين لبكي، ندى بو فرحات، ليليان نمري). لقاء يتصالحون فيه مع زمنهم الضائع وطفولة هشّمتها الحرب. هكذا، تطوف البوسطة _ التي هي الصورة النقيضة لبوسطة عين الرمانة 1975_ على مناطق لبنان، المتنوعة ثقافياً ودينياً وطائفياً. تحمل إعلاناً يقول: «أيها اللبنانيون، أبشروا. أصبح للبوسطة معنى آخر. هذه بوسطتنا، وهذا لبنان». يهوى عرقتنجي أيضاً إضافة مفردة «الأرز». أليس هو القائل عن تصنيف فيلمه: «هذا ليس فيلماً هوليودياً ولا بوليودياً.. إنه فيلم أرزودي (في إشارة إلى شجرة الأرز)!».
يقترح الفيلم وصفة للشباب اللبناني الذي يتوهّم أنّه نسي الحرب، بينما لا يزال يمارسها وإن بأشكال مدنية. ويدعو الفيلم إلى ضرورة التحرر من الماضي والتقاليد والإرث، لأنّها تختزن دوماً الفتيل الجاهز للاشتعال. فيما يقترح الانفتاح على معاني الحياة العصرية، بما يعكسه من حقّ للفرح والرقص والغناء. الدبكة في الفيلم ترميز إلى ذلك الماضي، ودبكة التكنو التي يبتكرها شباب البوسطة ترميز إلى ضرورة المصالحة بين الماضي والمستقبل. لتحدث هذه المصالحة، فإن الحاضر، في فيلم عرقتنجي، ليس فسحة استسلام أو كسل، بل هو فسحة مقاومة. الشبان والشابات يقاومون السطوة الهائلة للتقليد. يتحمسون، يتوترون، يتخاصمون، لكنهم يتفقون دوماً على النضال لتحقيق الحلم.
هذه فكرة تحتمل، في لبنان تحديداً، تأويلات عدة، تجنّبها الفيلم. كلّ ذلك يعرفه المشاهد اللبناني عن «البوسطة» الذي عُرض في مهرجان دبي السينمائي الدولي، وشاهده الشباب اللبناني المقيم في الإمارات في شتاء 2006. وكان واضحاً يومها أنّ هناك قراءة خاصة للفيلم من هذا الجمهور، في مقابل قراءات مختلفة لدى الجمهور العربي والأجنبي الذي كان حاضراً ومتتبعاً للترجمة الإنكليزية للفيلم. «فيلم استعراضي جميل» عبارة تردّدت على لسان الأجانب. أما اللبنانيون فقالوا «فيلم لبناني حقيقي». فـ«البوسطة» تآلف مع الأفق الرحب الذي يرغبون به.
إلا أنّ السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف سيتلقّف الجمهور المصري فيلماً لا يعرف الكثير عما يختزنه في الداخل، أي خلف الصورة والرقص والأجساد الطليقة؟ المشاهد المصري عادةً هو مشاهد خبير في السينما ولا يجب الاستسهال بردة فعله. لكنّ الأرجح أنّه لا يعرف عن «البوسطة» أكثر مما غنّته فيروز عن «بوسطة تنورين».
من هنا، سيركّز هذا المشاهد على مستوى الغناء والاستعراض في فيلم قد يذكّره بأمجاد سينما مصر الاستعراضية، وتحديداً في مرحلة بداية السبعينيات حين ظهرت الحوارات الدرامية المغناة في أفلام كـ«مولد يا دنيا» وغيرها. قد يجد فيه أيضاً مُنتجاً لبنانياً مختلفاً عما تصدره له نشرات الأخبار. الا أنّ المشاهد المصري الذي يحب لبنان، سيخرج من الفيلم بتوهم مفاده أنّ الأمور في البلد الصغير لا تزال «كويسة». هل هي فعلاً كذلك، أم أنّ «بوسطة» عرقتنجي تبقى فكرة مثالية، تماماً كما بوسطة تنورين الرحبانية؟

ينتهي عرقتنجي هذه الأيّام من وضع اللمسات الأخيرة على فيلمه الروائي «مطر صيفي» الذي صوّره في الجنوب اللبناني قبل أشهر، وأنتجه بالتعاون مع تلفزيون ARTE. تدور أحداث الفيلم (سيناريو عرقتنجي مع ميشال لفيفيان) خلال حرب تمّوز، وقد صوّر في الجنوب اللبناني في فترة قياسيّة، ويشارك في بطولته جورج خبّاز وندى بو فرحات