القدس المحتلة ـــ نجوان درويش
لا شك في أنّ ملحمة جلغامش دائمة الإغراء لاستعادتها على الخشبة، لكنّ السؤال الذي يُطرح في هذه الحالة: ما الذي يتطلّبه نص تاريخي ليشكل عملاً مسرحياً يمسّ الراهن ويشتبك مع اللحظة؟ ثلاثة عروض قدّمها مسرح SOS النروجي في القدس ورام الله وأريحا، لمونودراما مأخوذة عن الترجمة السويدية (من الأكادية) لملحمة جلغامش.
العمل الذي يدخل العرض الموسيقي الحيّ في تركيبه، من إخراج العراقي كريم رشيد وأداء سفّين كريسترسون (تمثيلاً وغناءً) وموسيقى وعزف فريدريك مير (درامز وآلات إيقاعية أخرى). وهذا العرض هو من العروض النادرة التي يُتاح لمخرجين عرب إقامتها في فلسطين المحتلة. فالعروض المسرحية الوحيدة الممكنة كانت مع شريحة محدودة من المسرحيين العرب الذين يحملون جنسيات أجنبية.
الساحة الفلسطينية ظلت معزولة عن الإنتاج المسرحي العربي. وعقب اتفاقية أوسلو، تسرّب بعض المسرحيين العرب (مخرجون مغاربة مثل الطيب الصديقي) إلى الساحة الفلسطينية في أعمال انحسرت سريعاً. وسرعان ما جوبه مسرح تجاري من الأردن (هشام يانس ونبيل صوالحة وأمل الدباس) برفض شعبي في الأردن وفلسطين بعد تقديمه لمسرح الكباريه السياسي على مسارح إسرائيلية. في المقابل، ظلت المشاركة الفلسطينية في مهرجانات المسرح العربية إشكالية بعض الشيء، وخصوصاً في ما يتعلق بالإنتاجات القادمة من فلسطين المحتلة عام 1948، وتحديداً تلك التي نشط أصحابها لسنوات في إنتاج مسرحي وسينمائي إسرائيلي.
وعليه، فإن وصول عمل عربي أو نصف عربي يشكّل «حدثاً» هنا. هكذا، حضر كريم رشيد من خلال فريقه السويدي الذي قدّم عمله بلغة سويدية وبنكهة عراقية لم تستطع إخفاءها اللغة الأجنبية. أداء سفّين كريسترسون كان لافتاً، إذ استطاع أن يحمل عملاً بهذا الغنى والتشعب وتعدد الأصوات. كل ذلك في فضاء سينوغرافي متقشف وسرد «أمين» لأحداث الملحمة المعروفة. وبدا العزف المرافق الذي يمزج أنواعاً مختلفة من الموسيقى ــــــ من البوب والروك إلى ما يسمى «موسيقى العالم» ــــــ متوائماً مع الرؤية الإخراجية التي أضفت روحية عراقية شعبية على الملحمة التاريخية.
ربما كان هذا رهان المخرج والأمر الوحيد الذي يمكن إضافته في استعادته لعمل كملحمة جلغامش. هذه الاستعادة لـ«قصة أثرت في تاريخنا المشترك» كما جاء التقديم للمسرحية. ولا تُخفى ــــــ في هذا الاختيار لملحمة جلغامش ــــــ روحية «التصدي الحضاري» التي تعلنها ذات عراقية جريحة، تجد في تاريخها البعيد جداً تضميداً لواقع مهشم ومؤلم ويائس. هذا إضافة إلى قدرة هذا النص على إثارة أسئلة وجودية لا تنفك تلازم الإنسان وقدرته على أن يكون نصاً حديثاً. ولا نعرف إن كانت مزايا النص كافية بذاتها كمبرر فني لتقديم عمل كلاسيكي كملحمة جلغامش مسرحياً؟
أخيراً، يمثّل هذا العمل نموذجاً للتجارب المسرحية العراقية في الشتات ومحاولة هذه التجارب الدخول في نسيج البيئات الجديدة والتفاعل معها إبداعياً. ظاهرة لا تقتصر على المسرح، بل تشمل مختلف الفنون الأدائية والبصرية وكذلك الكتابية.