strong>عبد الغني طليس
«يقبرني الله اللي خلقك»... تلك كانت الجملة الأشهر في حياة ظريف لبنان الراحل نجيب حنكش، تتبعها فوراً جملة أخرى هي «اعطيني بوسة»... ثم يهجم ذلك الرجل الزحلاوي الخفيف الظل على ضيفته النجمة، كائنة من كانت، بالقبل، واضعاً كفّيه على خديها أو على كتفيها خلال التقبيل كمن يمسك لُقية ثمينة كبيرة الحجم بما يسمح لليدين الاثنتين بأن تنعما بها!
لم يكن نجيب حنكش «إعلامياً» كما يصنّفون اليوم كل من يجلس أمام كاميرا مقدّماً برنامجاً ناجحاً أو فاشلاً أو أكثر فشلاً من كلمة فاشل. كان رجلاً لطيف المعشر رغم قساوة ملامحه، دافئ النبرة رغم صوته العالي النبرة، ذكياً رغم البساطة التي كانت تغمره. كانت المقابلات التي يجريها في «تلفزيون لبنان»، الوحيد الأوحد تلك الأيام، وحيدة أيضاً في عذوبتها. وكان نجوم الفن اللبناني والعربي ينتظرون بفارغ الصبر «دورهم» في برامجه التي كانت الأكثر شعبية في لبنان. فمن خلالها، كانوا يستطيعون إيصال الرسائل الفنية والاجتماعية التي يريدون بأسرع وقت ممكن، وبأحلى إطار... وكان هو يعرف بدقة مَن يستقبل وكيف ولماذا. وكانت «الجمعات» الفنية التي يقيمها في الاستوديو فريدةً في عدد الضيوف ونوعيتهم. ولعل أفضل ما تميز به حنكش أنّه جعل تلك «الجمعات» أشبه بلقاء عفوي في مقهى أو سهرة لطيفة في منزل، مبعداً بذلك التصنع الذي يرافق النجوم ومقرّباً الحميمية على ما عداها في علاقته بكل مَن دخل الاستوديو وجلس معه.
ومع أنّ الثقافة الغنية التي امتلكها لم تكن عميقة أو كافية لإجراء حوارات تخرج على المألوف والشائع، فإن المعلومات التي كان يحرص على جمعها قبل كل مقابلة مكّنته من إظهار ثقة واضحة مما يسأل أو يقول، ورسمت في أذهان ضيوفه صورة له تمتزج فيها النباهة الفطرية بالتحضير الجيد، وإدارة الحوار السلس بالكشف الجدي عن جديد في الآراء والأعمال. هكذا، وضع نجيب حنكش نفسه في مقدمة نجوم «تلفزيون لبنان»، نجوم الشاشة الصغيرة المحلّية التي كانت شاشتين اثنتين لا واحدة، وكانت المنافسة تاج رؤوس معدي البرامج ومقدميها وهدف الإدارات المتعاقبة على محطتي الحازمية وتلة الخياط.
قلة من اللبنانيين تتذكر أو تعرف أنّ أغنية «أعطني الناي» لجبران خليل جبران بصوت فيروز هي من تلحين نجيب حنكش، وأنّ ثمة محاولات تلحين أخرى له وجدت طريقها إلى البث الإذاعي أو كادت تجد الطريق. معظم الناس يتذكرون أنّه لُقّب بـ«ظريف لبنان» وكان اللقب يليق به لأنّه رجل «مهضوم» و«قريب» و«محبَّب». ومَن عاصره من جيل الستينيات من القرن الماضي ومطلع السبعينيات يضيف أنّ النكتة التي كان يلقيها على الشاشة أو في مجالسه الخاصة كانت «تفرقع» ضحكاً على الوجوه حتى لو لم تكن تستحق أحياناً عناء روايتها على المسامع. أسلوبه كان النكتة في ذاتها. بعض هذا الأسلوب استفاد منه رياض شرارة في ما بعد مضيفاً إليه ثقافة فنية وأدبية.
في شهر نيسان (أبريل) من عام 1979، رحل نجيب حنكش. بقيت ضحكته الرنانة وصوته الجهوري المستنفر وأسلوبه في بال من رآه ذات يوم. مات قبل أن يموت «تلفزيون لبنان» بوقت قليل، شُيِّع مرةً واحدةًَ. أما تلفزيونه الوحيد الأوحد فلا يزال يُشيّع كل يوم... ومن هالك إلى مالك إلى «قباض» الأرواح!