محمد خير
هل تنتمي كتابات رؤوف مسعد إلى أدب السيرة الذاتية، كما يعتبر كثير من القرّاء والنقاد؟ في روايته الجديدة «إيثاكا» (ميريت) التي يخيّم عليها طيف السندريلا، يعود هذا الأديب الإشكالي إلى مدينة المحرّمات، مؤكداً: «مش عاوز أمشي على السطر»

بشراسة تنذر بالشر، تناديه المعلمة. يتقدم من بين التلاميذ عارفاً مصيره: اليد مفرودة والكف مقلوبة على ظهرها. ترفع المعلمة العصا وتهوي بها على ظهر يده. أمّا هو فيقرر أن يؤجل البكاء حتى يقهر المعلمة، ويمنع الأولاد من الشماتة.
كــــــــل هذا العقاب لأنه يكتب في كراسة المدرسة بعيداً عن السطر. خلال فسحة الاستراحة، يسأله زميله: «لماذا لا تكتب على السطر؟» يهزّ كتفيه مستهيناً: «مش عاوز، مش عاوز أمشي على السطر».
هكذا يفتتح رؤوف مسعد روايته الجديدة «إيثاكا» («دار ميريت» ــــ القاهرة)، وهكذا يختتمها أيضاً، وإن كان المشهد الذي يتكرر في الخاتمة يدخله وجه مبتسم ذو غمازات يلوح للتلميذ الذي يمتنع عن البكاء. والوجه هو وجه السندريلا، سعاد حسني الذي يزيّن الغلاف ويظلل الرواية.
القول إنّ رواية «إيثاكا» لرؤوف مسعد مثيرة للجدل، لا يحمل جديداً. فمتى لم يكن هذا الروائي الستيني مثيراً للجدل؟
منذ اعترف فــــــــــي روايته الأولى «بيضة النعامة» بأنّه ينظر إلى مؤخرات النساء السائرات في التــــــــــــــظاهرة. حتى عـــــــــــــندما وافق على اقتراح التلفزيون الهولندي وزار إسرائيل واستكشف القدس، عاد ليحكي عن العنصرية الإسرائيلية، مفصّلاً ما شهده هناك في كتاب بعنوان «في انتظار المخلص».
ولم ينتظر رؤوف أن تنتهي تبعات زيارته وحدها، ألحقها بالكتاب تلو الآخر، فكتب «غواية الوصال» (2003) ليستكمل ما بدأه في «النعامة» وفي «مزاج التماسيح». دائماً مزيج من فانتازيا الروح وإغراق في حيرة الجسد، الأورغازم المفقود، وطرق اللذة التي كانت بين يدي الإنسان لكنّه ضيعها، ليعيش جسده وروحه في خصام كل في طريق بعيداً عن التصالح الذاتي، لأنه تجاهل الحقيقة التي تقول إنّ «الطريق إلى الاكتمال لا بد أن يمر عبر النقائص».
فضيحة المثليين في القاهرة
يستلهم الروائي المصري ما تحكيه الإلياذة عن عودة عوليس إلى مملكة إيثاكا، بعد عشرين عاماً من الصراعات والتيه في البحر.
العودة في «إيثاكا» الرواية هي عودة إلى ما يدهسه الإنسان من رغباته الذاتية، إلى الفرحة واللذة الحقيقيتين اللتين ضحّى بهما على مذبح المجتمع. وهي اعتراف بالظلم الذي أوقعه الإنسان بكل آخر مختلف عنه.
يقتحم مسعد هنا أكثر مناطق الاختلاف ضراوة في المجتمع الشرقي، ألا وهي «المثلية الجنسية» من خلال العودة إلى ملفات قضية شغلت مصر منذ ست سنوات.
فــــــــــــفي أيار 2001، دهــــــــــمت شـــــــــــرطة الآداب المصــــــــــرية نادياً ليلياً على ظهر إحدى البـــــــــــواخر واعتقلت عدداً من رواده وقدمتهم إلى القضاء بتهمتي «ممارسة الفجور وازدراء الأديان»، وهو ما عُرف على نطاق واســــــــــع باسم محاكمة «المثليين جنسياً». يومها، قامت المحكمة بتبرئة 29 متهماً وأدانت 23.
لكنّ الأمر لم يختلف كثيراً بين من برّأتهم المحكمة ومن أدانتهم، لأنه في الحالتين تم تدمير حياة الجميع الذين حكى بعــــــــــــضهم إلى مندوبي منظمة «هيومان رايتس ووتش» تفاصيل ما تعرضوا له أثناء الاحتجاز، ومهزلة الكشف عليهم بواسطة الطب الشرعي. وتنـــــــــــــــشر المنظمة على موقعها على الإنـــــــــــترنت (http://www.hrw.org) تقريراً يتضمن ما حكـــــــــــاه المتهمون من تجـــــارب تقشعر لها الأبدان. وهـــــــــو التقرير الذي اعتمده رؤوف مسعد في روايته.
في أحد مشاهد الرواية، يقــــــــــــف البطل بجوار ملهمته «السندريلا»، تفتح سعاد حسني نافذة وتسحب ستارة، يرى رجالاً جالسين منكسرين وحزانى. أمــــــــــوات لكن لم تتح لهم فرصة «الطيران» التي أتـيحت بعد المــــــــــــوت لكل من أحبّهم الناس وأجلّهم المجـتمع أو حتى وجــــــدوا متنفساً لرغباتهم.
أولئك الذين تحت النافذة مربوطون إلى الأرض، قيودهم موجودة لكنها ليست مرئية. ينظر أحدهم إلى البطل الواقف بجوار السندريلا ويناديه بلهفة. يقول البطل إنّه لا يعرفه، تنظر إليه السندريلا بلوم وتتركه.
يعترف البطل في ما بعد، بأنّ الرجل الذي ناداه يُدعى «ش». شاب مثلي الجنس يعرفه البطل حتى إنّه كانت له «تجارب» معه. مات «ش» أخيراً كما أخبره صديق مشترك لا يعرف بعلاقتهما القديمة السرية.
اعتاد الجميع أن يعتبروا نصوص رؤوف مسعد في معظمها سيرة ذاتية، هو أيضاً لا ينكر ذلك، فما كل تلك الجرأة؟ يقول البطل إنّه شعر بالجبن والعري والندم على الحياة التي أهدرها في «المشي بجوار الحائط»، مع أنه كان يدّعي للجميع أنه يمشي في عرض الطريق بين السيارات المندفعة... وقد فتح صدره لطلقات الرصاص من دون ارتداء القميص الواقي الذي يضعه الرؤساء.
يهيمن هاجس الموت على الرواية كما لم يحدث في روايات مسعد السابقة، يفكّر فيه طوال الوقت وعلى امتداد الصفحات.
وأخيراً يخلص إلى أن استمرار الروح في حيوات أخرى وأجساد متجددة هو أمر موقوف على المصطفين فقط، الذين يجرؤون على البوح لا الذين يكتفون «بالمشي على السطر».