strong>خليل صويلح
أول الغواية، أو رحلة البحث عن مفتاح النص

  • كيف يسمّي أدونيس قصيدته؟ وأين يلتقط سليم بركات «الثعالب التي تقود الريح»؟ وماذا عن ونّوس ومنيف والكوني والخراط وبركات وبرّادة وقاسم حداد...؟ السيطرة على العالم تبدأ من العنوان، حسب الباحث السوري خالد حسين

    لماذا اختار الكاتب هذا العنوان دون غيره، وما علاقة العنوان بالنص؟ وهل انبثق مصادفة، أم بقصدية واضحة ليكون عتبة للعبور إلى الجوهر؟ وهل هو استراتيجية كبرى للغة في تفتيت العالم، وإعادة صوغه على نحو آخر؟ أسئلة يطرحها خالد حسين في كتابه «في نظرية العنوان» (دار التكوين ــ دمشق). ويربط الباحث السوري تاريخ العنونة بنشوء التدوين، وانتقال اللغة من الشفاهية إلى الكتابة أو الفضاء المرئي للغة. هكذا، فالعنوان هو مفتاح النص الموصد، وهويته في عناق جدلي بينه والعالم: «السيطرة على العالم، لم تتم إلا بعنونته». وقد مارست اللغة بانتقالها من فضاء الصوت إلى فضاء الكتابة استراتيجية جديدة في التواصل بين المرسل والمُرسل إليه، فكان لا بد من علامة مركزية هي العنوان.
    وإذا كان الشاعر العربي القديم ظلّ متمرداً على عنونة قصيدته، مكتفياً بمطلع القصيدة مؤشراً إلى كينونتها، فمرحلة الحداثة وما بعدها في الشعر العربي دشّنت في العنوان بعداً جمالياً للنص بالتزامن مع كيفية القول الشعري ذاته. حتى غدت العنونة في الخطاب الشعري تتفوق على خطاب النص أحياناً، ما استدعى مقاربات نقدية مستقلة مثله مثل النص. وحسب امبرتو ايكو «ينبغي للعنوان أن يخلط الأفكار لا أن يعبّئها». إذ إنّه للمفاوضات بين القارئ والنص، يؤسس فضاء الغواية على جثة العلاقات السائدة في اللغة وازدراء الطابع المباشر في الإحالة والدلالات الجاهزة، عبر الإغواء وفتح ثغرة في أفق انتظار المتلقّي.
    ويطرح الباحث أمثلة لعناوين تتّسق مع نظريته التأويلية في مقاربة العتبات النصية، فيختار «يقين العطش» لإدوار الخراط و«طيش الياقوت» لسليم بركات، و«شهوة تتقدم في خرائط المادة» لأدونيس، و«يمشي مخفوراً بالوعول» لقاسم حداد. هذه العناوين، كما يقول، تجذب المتلقّي عبر الثغرة التي تؤسسها في عالم الخبرة اليومية لديه بإحداث تجاورات غير ملائمة بين العلامات اللغوية وذلك بدمج الحقول الدلالية المتنافرة والمتضادة. هكذا فالعنوان يهب النص هويته وبعده الانطولوجي، وتالياً قابليته للحوار والقراءة.
    وعلى صعيد الخطاب الشعري العربي، يوضح خالد حسين إلى أي حد أضحى الشاعر الحداثي وما بعد الحداثي يتخذ من العنونة استراتيجية لنصه. ويختبر بالتحليل نصاً شعرياً طويلاً لمحمود درويش هو «يطير الحمام». هذا النص الذي ينتظم في حقل دلالي يقوم على التضاد والتكرار، مثلما يثري فضاء النص. وفي قراءته لنص سليم بركات «بالشباك ذاتها، بالثعالب التي تقود الريح أو مكائد الفجاءة والخديعة»، يتراءى للمتلقي كما لو أنه إزاء تعويذة، وهو يواجه مثل هذا العنوان الغرائبي. فهو يمثّل تحدياً للقراءة الراهنة، ما جعل الشاعر يقدم لنصه بقوله «حقاً العنوان ـــ نفسه ـــ مسألة غامضة. قد يصلح هذا العنوان لكتاب ما، وقد يصلح له عنوان آخر. كلنا يقلب جملة من مفاتيحه على باب النص، واحد منها يماثل قفل الرؤيا، واحد هو خيال المطمئن، خطأً أو صواباً إلى أنك استوفيت السهم اندفاعاً إلى صميم حبرك».
    لا يحفل سليم بركات بالمنطق الدلالي السائد بين عناصر العالم، بقدر ما يسعى وفق رؤيته التفكيكية إلى تقويض البنية المنطقية لعلاقة اللغة بالعالم من جهة والدال بالمدلول من جهة أخرى وتأصيل منطق دلالي مغاير ومفارق وغرائبي. ويخلص خالد حسين إلى أنّ استنطاق نص سليم بركات مغامرة محفوفة بالمخاطر، فهذا الشاعر يتكئ في عنونة نصوصه على الغموض العميق والتركيب المفارق للسائد، ليغدو العنوان في نهاية المطاف صدى للنص والأخير صدى للعنوان.
    في الانتقال إلى الخطاب السردي، يستمد العنوان قوته من عراقة العنونة في المرويات الكبرى في التراث العربي التي ولدت معنونة خلافاً للشعر، مثل «ألف ليلة وليلة» و«رسالة الغفران» و«كليلة ودمنة». ما يجعل الإمساك بمفاتيح النص أمراً يسيراً مقارنةً بالنص الشعري، على رغم أنّ معظم النصوص السردية الجديدة تقترب في عنونتها من تخوم الشعرية كما تتبدّى في «نزيف الحجر» لإبراهيم الكوني و«حجر الضحك» لهدى بركات و«لعبة النسيان» لمحمد برادة. ولعل التأمل في هذه العناوين الروائية يكشف اهتمام الروائي المعاصر بإغواء القارئ واصطياده بشباك العنوان للدخول إلى تضاريس السرد الوعرة، وخصوصاً بعدما احتلت الرواية موقعاً متقدماً بين الأجناس الأدبية العربية.
    هكذا جاءت رواية عبد الرحمن منيف «مدن الملح» كعنوان عام تتناسل منه عناوين فرعية مثل «التيه» و«تقاسيم الليل والنهار» «بادية الظلمات»، وإذا بها تزيده غموضاً. ويلفت خالد حسين إلى أنّ المنجز الحداثي أخذ يتعمق في تسعينيات القرن المنصرم، ليدفع بظاهرة العنونة إلى أقصى مراتب الغموض والإثارة على مستويات البنية والدلالة والمجاز. ويتجلى هذا المنعطف عنونة ونصاً لدى إدوار الخراط في «اختراقات الهوى والتهلكة» و«مخلوقات الأشواق الطائرة،» ولدى رشيد الضعيف في «تصطفل ميريل ستريب» و«فسحة مستهدفة بين النوم والنعاس»... وعلى نحو أشد إثارة في عناوين روايات سليم بركات «فقهاء الظلام» و«أرواح هندسية»، ولدى حيدر حيدر في «وليمة لأعشاب البحر». هذه الطائفة من العناوين هي ما يؤسس لخطاب نوعي بات يفرض نفسه على أدوات الناقد واستراتيجيته في التأويل. ويفرد الكتاب فصلاً لدلالة العنوان في قصص زكريا تامر. هذه القصص التي تتوسل صيغاً شعرية على صعيد الكثافة والإيحاء واستدعاء التراث، وهيمنة الجملة الاسمية على معظم عناوين أعماله كما تتبدّى في «صهيل الجواد الأبيض» و«دمشق الحرائق».
    أخيراً، يرصد الكاتب «تحوّلات العنونة في مسرح سعد الله ونوس» عبر ثلاث مراحل. ففي مرحلة البدايات، تهيمن ثيمة الموت على عناوين مسرحياته مثل «فصد الدم» و«جثة على الرصيف». فيما تمثّل عناوين المرحلة الثانية تحولاً نوعياً ينفتح على التراث وعلى صوت الآخر باستثمار التقنيات الحداثية واستلهام الملحمية والتسجيلية. وتتحدد تخوم هذه المرحلة بعناوين لافتة مثل «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» و«الفيل يا ملك الزمان». بينما تنزع نصوصه الأخيرة إلى معانقة الشعري والسردي مثل «منمنمات تاريخية» و«طقوس الإشارات والتحولات» و«ملحمة السراب».