strong>وائل عبد الفتّاح

  • عن الأنوثة المقموعة في جسد رجل مهزوم

    رؤوف مسعد يعتنق مزاج الكتابة المشغولة بالجسد. إنّه مركز العالم، ومحور حروبه، وملعب انتصاراته وهزائمه. وها هو، مثل عوليس، يعود إلى «إيثاكا»، عنوان روايته الجديدة التي تجمع بين رثاء الواقع السياسي وكولاج الموت السعيد

    هل أنتَ مستعد للموت؟ تراجعت في اللحظة الأخيرة قبل أن أطرح على رؤوف مسعد (1937) هذا السؤال. روايته الجديدة “إيثاكا” (“دار ميريت” ــ القاهرة) بدأ كتابتها في محاولة للتغلّب على فكرة دنوّ الموت. انتصار مؤقت قبل لحظة الطيران الى السماء. لكنّ المحاولة انفجرت بحكايات صادمة لعشّاق الحقائق الناقصة.
    “إيثاكا” لعبة هروب من الموت وإليه، أُدرجت في خانة الرواية كالعادة. لكنّها نص يميل الى السرد أو الحكي الشخصي، ولا يتعمّد اتقان قواعد الرواية. كتابه “بيضة النعامة” (“دار الريس” ــ 1994) اعتبر أيضاً “رواية”. هكذا، استسلم رؤوف لفكرة تصنيف كتاباته التي بدأها متأخراً (في سن الـ45). كتابته الأولى كانت جزءاً من مراهقة مناضل صغير يهوى سِيَر الثوار (تروتسكي ولينين وستالين وغيفارا)، المطاردين من البوليس. كتب رؤوف وهو في السجن (موجة اعتقال الشيوعيين في مصر الستينيات)، واختار المسرح ليتميّز عن صنع الله ابراهيم وعبد الحكيم قاسم وكمال القلش. هذه المجموعة التي انتمى إليها، كتبت في ما يشبه البيان (المانفيستو) ونشره صنع الله في الطبعة الأولى لروايته الأولى “تلك الرائحة” (1966).
    دخل رؤوف السجن ثورياً على وشك تغيير العالم، وعاش فيه يقاوم الانكسار، ثم خرج متمرداً على أي جماعة أو كما يقول: “رفضتُ ديني المسيحي، وطبقتي وجماعتي. وبعد الحياة في زنزانة، شعرتُ بأنّ الحفاظ على جسدي يدفعني للعيش وحدي. أفكاري مهزومة. وأحاول فقط الوقوف وأخاف من مصير العودة الى كلّ الجماعات التي رفضتُها”.
    “إيثاكا” كانت موجودة، تشغله وتناديه قبل كتابة “بيضة النعامة”... لكنّه كان أمام تحدّ مختلف: هارب أو شبه مطرود من مدينة يحبّها (بيروت) وعليه أن يستعيد وجوده من جديد. حافة خطر أن تفقد كل شيء وتضيع وأنتَ في منتصف العمر. حاول أن يلعب عبر الكتابة (اختار أن تكون شخصية هذه المرة) اقترب من أسلوب المذكّرات. لم يتصور أنّها ستنشر. فقط كان في رحلة لإعادة السيطرة على حياته التي تفلت من بين أصابعه، ولم يهمّه هذه المرة أن يقال إنّه مناضل. هل يصحّ أن ينشغل مناضل بالمؤخرات الجميلة في عزّ المظاهرة؟ هكذا كانت صدمة شخص وقور في أحد مشاهد “بيضة النعامة” التي كانت علامة في طريق جديد، لكنّها خطر على كتابة محافظة ترى الانفلات وباءً تجب مقاومته.
    من يومها، ارتبط اسم رؤوف مسعد بالكتابة الصادمة. وفي “إيثاكا”، يصل بالصدمة الى منتهاها: رواية عن عالم المثلية الجنسية. هكذا، يمكن للوهلة الأولى اختصار “ايثاكا” في مغامرة اختراق المحرّمات والكتابة عن عالم الحواس المهشّمة والضائعة والمرفوضة... لكنّها بالنسبة إلى رؤوف رواية إنقاذ أو خروج من أزمة: “كنت أعتقد أنّني بدأت السيطرة على حياتي. تزوجت وشعرت ببعض الاستقرار. عشت فى هولندا. وفجأة وجدتني وأنا في الـ68 من العمر، أتعرّض لهزة كبيرة، ثلاث عمليات في القلب وعملية بروستات. خرجتُ من المستشفى محبطاً. عملية جراحية تهدّد إحساسك بالذكورة واقترابك من الموت. قررتُ أن أكتب من جديد لاستعادة السيطرة على ما تبقّى من حياتي...”.
    هل “إيثاكا” رواية اعترافات؟ النصوص بدأت كمحاولة استعادة بين رجل بلا إسم يعمل مرمم آثار، أي يعيد الحياة لحكايات قديمة تركها أصحابها، وطاروا الى السماء مع امرأة طاردها (البروفسيرة) ويشعر أنّها باتت في لحظة استسلام. بداية عادية وهادئة لرجل يهوى مطاردة النساء، ويشعر أنّه اقترب من الاعتزال. لكنّ المزاج تغيّر بعد قضيّة الـ“كوين بوت” (الباخرة التي قيل إن روّادها مثليو الجنس، واعتقلهم الشرطة ــ2001). يهديهم رؤوف نصّه، ويعتبرهم “ضحايا” لا “مجرمين” و”شاذين”، حسب أجهزة الأمن التي مارست عليهم انتهاكات سجّلتها منظمات حقوق الإنسان.
    هل يعتمد الوجود الأدبي لرؤوف مسعد على العلاج بالصدمات؟ يتجاهل الرد المباشر: “أنا رجل روتيني يخاف الصدمات. لكن لا مانع عندي من إدخال القارئ في مفاجآت. الكتابة تكشف شخصيتي الأخرى. أخرج عن الروتين والهدوء. وأحياناً، أشعر أنّني أمارس عنفاً. أنا شخص عادي، لكنّي أتغيّر في الكتابة. أمارس بعض الشر”. ثم يعترف: “شخصية المرمّم في ايثاكا تفعل ما أخاف أنا من الإقدام عليه. وربما كانت الشخص الثاني الذي تربيت على قمعه. لكني الآن خائف من ظهور شخص ثالث بينهما ستكون عندها مفاجأة رهيبة”.
    “ايثاكا” هي الجزء الثاني من “بيضة النعامة” وما بينهما (مجموعة قصصية “صانعة المطر” وروايتا “مزاج التماسيح” و“غواية الوصال”) مجرد تدريبات على مزاج الكتابة المشغولة بالجسد. فهو مركز العالم، ومحور حروبه، وملعب انتصاراته وهزائمه. وكما يقول رؤوف: “حتى اللوثة الدينية مرتبطة بالجسد. فهو وسيلة دخولك الجنة أو النار. الجسد بالنسبة إليّ مهم، ولغة الجسد مؤشر قوي بالنسبة إليّ. السجن خلق لي حالة مهمة جداً. أنتَ في الزنزانة تعيش مع أجساد كثيرة وترى عن قرب الجسد في تحولاته وإفرازاته وتحولاته الجنسية وعلاقته مع العقل...”.
    في “ايثاكا”، يصل الكشف عن استعراضات الجسد وألعابه السرية إلى منطقة محظورة تماماً: الفيتشيّة fetishism والولع بالعذاب sado masochism بحثاً عن المتعة. مغامرات التخلي عن أقنعة الذكورة في جسد رجل، لاكتشاف الأنثى المقموعة داخل الجسد الذي ينتظر موعد طيرانه. خطوط تتقاطع في الرواية مع الرغبة في رثاء الواقع (السياسي) الذي يقتل الشرفاء والضحايا من شهدي عطية وفرج الله الحلو (اليساريين) إلى سيد قطب والشيخ أحمد ياسين (الإسلاميين).
    صدمة أخرى ليساري يجمع بين “الأبطال” و“الشهداء” ويكتب بالعامية ويستخدم تقارير الشرطة ومنظمة “هيومان رايتس ووتش” لأوّل مرة، ويثرثر بخطاب رومانتيكي سياسي، ويتخيل سعاد حسني ملاكاً يقوده الى موعده في الطيران، الى السماء. ملاك يجمع بين الحسية (إيروس مصرية) والضمير (بالمعنى اليساري الصرف)، وهي معجزة لا يقدر عليها سوى رجل طيب يبحث عن طريقة للموت السعيد.