الدار البيضاء ــ ياسين عدنان
كيف تتخلّق الكتابة باعتبارها فعلَ حرية داخل هذا الجنس الأدبي أو ذاك؟ ولماذا يتسلى المبدعون من الأجيال الجديدة بممارسة الهجرة السرية والتنقل بلا جوازات سفر عبر الحدود غير المحروسة للأنواع الأدبية؟ وهل من حدود فعلاً تُقيد فعل الكتابة أم إنّ الكتابة تستدعي الانسلاخ التام عن النَّسقية؟
هذه الأسئلة طرحتها ثلة من الأدباء المغاربة الشباب على طاولة مستديرة أدارها الأديب الناقد محمد علوط تحت عنوان “الكتابة وتجربة الحدود” على هامش فعاليات المعرض الدولي للكتاب الذي احتضنته الدار البيضاء أخيراً.
كان السؤال جزءاً من دينامية كتابةٍ وتعبيراً عن قلقِ إبداع: هل الحدود في الكتابة حرية وانفتاح أم انطواء وانغلاق؟ ثم هل هذه الحدود حقيقية أم متخيَّلة؟ يجيب الباحث مصطفى الحسناوي بأنّ الحدود في الكتابة ليست معطىً جاهزاً، بل هي حدود متخيلة مفتوحة على ترحيلات وصيرورات بالغة النأي. وإذا كانت حدود الدول تُعتبر عموماً من علامات السيادة، فإنها فيما يتعلق بالكتابة مؤشر إلى انعدامها، لأن الكتابة تجربة لا سيادة لها، ترتبط بالأقليات وباللاشرعية وبرمزية المنفى.
لكن كيف تنخرط القصة القصيرة والتجريبية في هذا التنقل السري الحر، والفوضوي أحياناً، عبر الحدود غير المحروسة للأجناس الأدبية؟ هذا السؤال تصدى للإجابة عنه القاص أنيس الرافعي الذي تحدث عن محاولة بعض المغاربة توجيه دفة القصة القصيرة نحو “الشاطئ الثالث للنهر” أي نحو تلك المنطقة الملتبسة التي تتلوث فيها المياه الإقليمية للقصة القصيرة بالمياه الغريبة القادمة من مجاري أخرى أدبية وغير أدبية: شعر، تشكيل، سينما...
وإذا كانت ندوة “الكتابة وتجربة الحدود” التي اندرجت ضمن احتفاء معرض الدار البيضاء بالاتجاهات الجديدة، قد أعطت الأولوية للأصوات الشابة، إلا أن العديدين تمنوا لو أُشرك عدد من الأدباء من أجيال مختلفة في هذا الحوار. فاختراق الحدود الأجناسية ليس مغامرة شبابية فقط، بل هو اختيار أدبي لا يرتبط بجيل بعينه. ويكفي أن نستحضر مثلاً تجربة الأديب المغربي عمرو القاضي الذي بدأ مساره الأدبي قاصاً في أواخر الستينيات من القرن الماضي قبل أن يطلع علينا عام 1996 بروايته “البرزخ” التي دعا من خلالها إلى الحسم مع أسطورة صفاء النوع الأدبي. هكذا ضمَّن عمله الروائي الأول العديد من القصاصات الصحافية والنصوص التاريخية والمقالات السياسية والقصائد وعدداً من الرسائل. وظل عمرو القاضي يمارس تجريبه الخاص به في مساحة ملتبسة تتداخل فيها القصة بالرواية والسيرة الذاتية بكتابة المذكّرات على امتداد ثلاث روايات، قبل أن يطلع علينا أخيراً بسيرته الروائية الجديدة “الجمرة الصدئة”. وهي العمل الذي وضع كل قُرَّائه في حيرة أجناسية وخصوصاً مع الحضور الطاغي لخصوصيات الكتابة القصصية وتقنياتها في هذا العمل الذي أصرّ صاحبه على اعتباره سيرة روائية.
إذن، ليس هناك من نوع أدبي صاف ونقي. وسيكون من العبث اليوم الوقوف في وجه كل هذه التجارب التي تنحاز إلى التجريب واللانص وكتابة الاختراق. لكن ماذا عن الحدود؟ ألا نبالغ في تخوفنا من وطأة هذه الحدود المتخيلة التي يزعم النقاد وجراحو الأدب انتصابها بين الأجناس الأدبية؟ وحتى إذا ما كانت هناك حدود أصلاً، أفليست وظيفتُها الاستراتيجية في النهاية هي تحريض المبدعين على اختراقها وتجاوزها؟ ثم إن الكتابة، مثلما أكد مدير ندوة الدار البيضاء الأديب محمد علوط، تبقى انسلاخاً في الدرجة الأولى، وتموضعاً في المابينيات، في العبوري، الاختراقي، التفكيكي. تلك هي الخطط اللوجيستيكية التي تُدبِّرُها الحدود ضمن أحْيِزَة الكتابة كي تكون اختلافية ومحمولة على سند أساسي راسخ اسمه التجاوز وعنوانه الاختراق.