strong>نور خالد
  • كيــف أفلــت «عطــر» زوسكــيند من قمقـم الرواية

    راهن توم تيكوير على تصوير عالم مجرّد يبدو مستعصياً على السينما، فحقق فيلماً تفوح منه روائح الدنس والقداسة، القسوة والشفافية، الحب والبغض... إلى أي مدى نجح المخرج الألماني في نقل كتاب زوسكيند إلى الشاشة؟

    هل نجح توم تيكوير في تحويل الرؤية الحسية النافذة للروائي الألماني باتريك زوسكيند، الى عمل سينمائي على مستوى روايته “العطر ــ قصة قاتل”؟ الفيلم الذي يحمل عنوان الرواية، يتناول قصّة طفل اسمه جان باتيست غرونوي (بن ويشاو)، يتمتّع بحاسة شم حادّة تمكّنه من تمييز الروائح المحيطة به. هكذا، يستخدم غرونوي هذه الهبة ليبتكر عطر الخلود، بعدما نبذه الكلّ لأنْ لا راحة له. يصبح غرونوي مهووساً بتخزين روائح الشابات الشذيّة، حتى إنّه يقتل 12 امرأة لتحقيق تلك الغاية. وحتّى النهاية، يمضي هذا القاتل الذي لا يعرف التوبة، في رحلة بحثه عن المادة الأخيرة لاستكمال عطره المنشود.
    قد يسهل القول إنّ المخرج الألماني لم يوفّق في تجسيد رواية زوسكيند، أو بالأحرى فشل في أن يكون وفياً لحدّة الإبهار التي تضمنتها الرواية، الا أنّ هذا الحكم يحمل في طيّاته الكثير من الاختزال بل يتجاهل وظائفية السينما. ذلك أن مخرج “اركضي لولا، اركضي” يقدّم هنا معالجةً مختلفةً لعالم بدا مستعصياً على السينما طيلة العقدين الماضيين ــ هما عمر الرواية ــ عالم بهي من روائح الدنس والقداسة، القسوة والشفافية، الحب والبغض.
    رواية زوسكيد تنضح بمجموعة من الروائح القيمية المجرّدة، لا الحسية فقط. ليست وحدها رائحة النتن في سوق سمك “مونمارتر” هي التي علقت في أنوف القراء منذ السطور الأولى للرواية. بل إنّه غرونوي، الرضيع المرمي لحماً طرياً بين هذه الروائح النتنة الذي علق أيضاً في أذهان القراء. لقد علقت هذه الروائح لديهم في غور ما، مظلم، يجسّد القسوة أو الخوف أو الكآبة الوجودية. هذه هي جغرافيا الروائح التي رسمها الكاتب: أن تكون للرائحة خطيئة، وللخطيئة رائحة. أن يكــــــون للرائحة جمال وللجمال رائحة.
    حين تشجّع تيكوير على قول العطر سينمائياً، كان عليه النفاذ الى ذلك العمق. أن ينتبه الى الفخّ الدائم الذي تنصبه الرواية، بمكر وخبث، للسينما، كلّما أرادت هذه الأخيرة معانقتها. لم يقع المخرج في الفخّ، إذ تفادى نطح ذلك الجدار الهائل من الروائح، بدافع تحويلها الى صور. ارتأى أن الجسد هو حقيقة الوجود الوحيدة. مكمن العطر ومعبر الفناء واشتهاء الخلود. أليس هو أصلاً المظلة التي احتمى تحتها الروائي وهو يسطر روايته البهية؟ هنا تمتد جذور الأزمة. جان باتيست غرونوي، أخرس وصامت ولا رائحة له، والجسد مخلّصه في النهاية، طريقه إلى حلم الخلود الذي دفعه الى قتل 12 ضحيّة من الحسناوات... وكما كانت الرائحة مكمنَ الهدير الهائل الذي صدّرته الرواية، أدّى الجسد الدور نفسه بالنسبة إلى الفيلم. ها هو قطعة لحم طرية مدماة منزلقة على الإسفلت، بقعة تكاد تكون الأقذر على الأرض، في مشهد ولادة غرونوي في سوق السمك. وها هو جثة حية، يفرز دهنها حياةً جديدةً تؤدي الى الخلود، كما يبدو لنا في مشاهد سحب عطور ضحاياه. وها هو، في مشهد مهيب لطقس الحب الجماعي، مخلّص النفس من جذرها الشيطاني المحرّض على القتل والانتقام. لكن هذا المشهد لن يكون ــ للأسف ــ في متناول المشاهد العربي! الجسد، في المشهد الأخير الذي جمع فيه المخرج مئات المؤدين العراة، يتبادلون الحب في ساحة غراس، هو رمز الخلود الحقيقي الذي توصّل إليه البطل. كان على الاجساد أن تعلن عن حقيقتها... كي يعرف غرونوي حقيقته.
    ولا مفرّ من الإشارة إلى قلّة النضج في أداء الممثل البريطاني بن ويشاو الذي لم يتمكّن من تطويع جسده للتعبير عن أساطير الرائحة. علماً أنّه اجتهد في مشاهد عدّة، كتلك التي ركّزت على حركة أنفه، أو حالة العينين لحظة القتل. وذلك الجهد لم يبذله داستن هوفمن الذي جسّد دور العطار الايطالي بالديني. إذ إنّ دوره بدا قائماً على الحركة الخطابية التي جاءت أقرب الى الأداء المسرحي في بعض المشاهد.
    في المحصلة، يمثّل فيلم “العطر ــ قصة قاتل” الاختبار الأقصى للسينما في نقل رواية حسّية قائمة على المجرّد وغير المرئي. السينما هنا تراهن على تجسيد نقيضها. لكن هل ربح تيكوير رهانه؟ الأكيد أنّه لم يفشل... بل عرف، بحنكة، كيف يتفادى الفخ.

    في صالات سينما “أمبير”
    www.circuit-empire.com.lb