بيار أبي صعب
رجلان على هامش المجتمع، على قارعة العالم. كأنهما هاربان من مسرحيّة شهيرة لصموئيل بيكيت، سبق لروجيه عسّاف أن قدّم قراءة خاصة لها في بيروت. عصام بو خالد وفادي أبي سمرا صديقان لدودان ما عادا ينتظران شيئاً. لكنّ غودو سيأتي حتماً... إنّه ملاك الموت

المتسكعان الأبديان أمامنا على الخشبة. يخالجنا شعور بأننا نعرفهما جيداً. لقد التقيناهما حتماً في مكان ما. أين يا ترى؟ كل شيء على المسرح مألوف: الشخصيتان، الصوت، الأداء، اللباس، الحركات، وحتى الديكور... وحده الحوار جديد، لكنّنا سمعنا قبل اليوم هذا الهذيان الفلسفي، العبثي، بلغة الحياة اليوميّة، العاديّة، الموجعة والرتيبة.
في مسرح “دوار الشمس” في الطيّونة، أول من أمس، كان عصام بو خالد وفادي أبي سمرا يضعان اللمسات الأخيرة على عرض جديد من إعدادهما وتمثيلهما، يفتتح هذا المساء في بيروت بعنوان “صفحة ٧”. في الصالة روجيه عسّاف، مارك موراني، بشارة عطالله وبعض الأصدقاء المقرّبين... سرمد لويس يرافق التمارين، يضبط تفاصيل تتعلّق بالإضاءة والشريط الصوتي. بقعة من الضوء وسط الظلام. فادي يرفع شارة النصر، يقف صنماً أو تمثالاً وسط الدائرة التي يزاحمه عليها عصام. “شارة نصر” إذاً. لماذا؟ في أيّة مناسبة؟ من انتصر؟ وفي أيّة معركة؟
إنّها حكاية رجلين بلا مأوى، يحلمان بالأكل. يبحثان عن قوتهما في صفحة الوفيّات، ثم يعدلان في اللحظة الأخيرة عن الذهاب إلى مجالس التعزية لمشاركة أهل الفقيد مائدتهم مع المعزّين. إنها حكاية... ليست حكاية. ليست هناك حكاية أساساً، ولا حدث مسرحي. مجرّد صديقين لدودين يسكنان الزمن المكرور، مرتبطين في علاقة سادو مازوشيّة مقلقة ومسلّية في آن. كلٌّ جلاّد الآخر وضحيّته وحبيبه، ولا يستطيع أن يحقق أي وجود من دونه (المسلم والمسيحي؟ السنّي والشيعي؟). صديقان يعيشان مع الخوف، بلا أفق. يستسلمان للزمن الميت، يمارسان رياضتهما المفضّلة: التأمل الهاذي في الوجود. علك الحكايات والحكم والذكريات وسائر التفاصيل... يتحركان، فيدور حجر الرحى، تنطلق طاحونة الكلمات... سرعان ما نلاحظ أننا في عالم من دون منطق، سوى المنطق الداخلي للشخصيتين، تتأرجحان بين مرح وانسحاق، بين سخرية ساذجة وقهر دفين.
مهلاً. هذان الشخصان يشبهان إلى حدّ بعيد فلاديمير واستراغون بطلي صموئيل بيكيت. ربّما أفلتا من مسرحيّة نعرفها، ليواصلا اللعبة على هواهما. فادي وعصام، كلّ منهما جسّد شخصيّته الحاليّة نفسها قبل سنوات، في ادارة روجيه عسّاف الذي قدّم قراءة خاصة وذاتيّة وراهنة لنصّ بيكيت. كان ذلك يومها في “مسرح بيروت” في عين المريسة... نحن إذاً في صلب العالم البيكيتي، لكن من دون بيكيت.
كما في الكوميديا دي لارتي، ينطلق الممثلان من ثوابت جماليّة ومواصفات دراميّة محدّدة، ليرتجلا اللعبة. كل منهما يترك لشخصيّته أن تعيش على هواها، أن تصبح مؤلّفة حياتها. الواقع السياسي والاجتماعي حاضر بقوّة في هذا العالم المجرّد، من دون أي إشارة مباشرة... كأننا بالممثلين اللذين يعتبران بين الأفضل في جيلهما عربيّاً، يمضيان في لعبة الهذيان العبثي لتجاوز الواقع. يقول لنا الثنائي في هذه الاستراحة المسرحيّة التي هي تنويع على “في انتظار غودو” (2003) كما قدّمها عسّاف، إن البؤس اللبناني ميتافيزيقي أوّلاً، الباقي يأتي لاحقاً. لا يعبّران عن ذلك مباشرة، بمقولات سياسيّة، أو احالات رمزيّة... فقط يعيشان هذيانهما حتّى الذروة، كشكل مركّب من أشكال الاحتجاج. ليس هناك “اخراج” في مسرحيّة “صفحة 7”، بل مواصلة للعبة مؤجلة، تختلط فيها الجهات والأزمنة والحالات.
عصام بو خالد صاحب “أرخبيل” (1999) و“مآآآرش” (2004) ليس مخرجاً هنا. لقد التقى فادي أبي سمرا من جديد، كما نلتقي صديقاً قديماً لاستئناف حديث (أو طقس) مؤجّل. معاً يخوضان في لعبة تعتمد على التمثيل، اعتمادها على الحوار. إنها مسرحيّة ممثلين، تغزل على منوال النص البيكيتي. مسرحيّة حالات شعوريّـــــة، تتلمّس العنف والرقّة والخوف. ومسرحيّة مناخات تغوص في الهامش حيث البرد والجوع... أطياف طفولة معذّبة وشبح الموت. لكن نص بيكيت المخفف والمشغول بعناية، إلى أي مدى تراه يحتمل التنويعات والتقاسيم؟ لعلّنا أمام تمرين لافت لطلبة ماهرين، همّهم تطويع اللعبة العبثيّة، والاستمتاع بليونة مستعادة... التعبير عن اهتزاز المنطق، ومجاورة الموت. عصام وفادي هما من ذلك الجيل المضحّى به في الثقافة اللبنانيّة، جيل “علقان بالنِصّ” كما الشخصيتان (رغم عدم وجود طرفين كي يعلق بينهما). جيل النجاح المؤجّل... في بلد الحياة المؤجّلة!
لذلك أحياناً يبدو لنا أننا نعرف اللعبة جيّداً، لكننا ندخلها مجدّداً من باب الحنين، أو التواطؤ الفنّي، أو رغبة البحث عن آفاق جديدة. المخلّص سيصل في النهاية. من قال إنّه لا يأتي في المسرحيّة الأصليّة؟ غودو ــ عندنا ــ يأتي دائماً مرتين. الأولى على شكل “أمل” بالإفلات من المأزق، والثانية على شكل “خلاص” من المأزق. والخلاص هنا هو الموت. قرأ فادي اسمه في صفحة الوفيّات، أيقن أن صديقه هو القاتل.
لقد قتله في مشادة الأمس، حين دعا عليه بالموت (فأجابه حينها: “عم تدعيلي أو عم تدعي عليّ؟”). لكن عصام اعتذر بعد ذلك، وفادي قبل الاعتذار. لماذا يموت إذاً، علماً أنّها جريمة الأمس، وغداً يوم آخر؟ لن ينفع شيء. قرأ المتسكّع خبر نعيه ومات. حزن صديقه وجلس ليموت إلى جانبه... في الظلمة، الشريط الصوتي وحده يواصل الدوران. عادت لعبة الحوار من أوّلها... وصولاً إلى مطلع المشهد الأوّل من مسرحية بيكيت الأصليّة. من ينتظر غودو بعد اليوم؟ وهل يجدي الانتظار حقاً؟

حتّى 8 نيسان/ أبريل على مسرح «دوّار الشمس» ــــــ الطيّونة
للحجز : 01,381290