strong>رنا حايك
يرفض غالب المشنوق أن يخلع الطربوش لحظة إعدامه عام 1916، هذا الطربوش الذي تتوارثه عائلة قدمت الكثير من الشهداء بعد غالب. في مسرحية “شلاح الطربوش” التي يبدأ عرضها يوم غد في مسرح المدينة، يعيد المخرج إيلي كرم النظر في معنى الشهادة، ذلك المدماك الأساسي الذي بني عليه تاريخ لبنان. يستعيد ذكرى ألف اجتياح واحتلال وثورة نسجت تاريخ البلد منذ عام 1916 حتى عام 2007 من خلال ثلاثة أجيال لعائلة بيروتية تشاركت جميعها في المصير ذاته: الاستشهاد.
يكشف المخرج من خلال هذه العائلة مجتمعاً في حالة غليان دائم ونظاماً اعتاد نسيان مشاكل الفرد والعائلة، ويشدّد على أهمية هذه النواة الاجتماعية التي تتخذ في إطارها كل القرارات المهمة. الطربوش، رمز الفخر والشرف، سيرافق أبناء المشنوق، والشهادة ستتكرّر كأنها القدر الحتمي لشعب يسكب الدم ثم يعود إلى نقطة الصفر دوماً.
التاريخ يعيد نفسه... والاستشهاد يُستغلّ ويُفرّغ من معناه في كل حقبة، فنجد أنفسنا أمام “كل الشهداء الذين يموتون من أجل قضية نبيلة أو من أجل لا شيء، من دون أن يدركوا ذلك. هم ضحايا الثغر الاجتماعية والعجز والطائفية. مأساتهم تحدّد تاريخ لبنان المتكرر ألف مرّة”.
يهدي إيلي كرم مسرحيته “إلى كل الشعب اللبناني... علّه يغيّر مجرى تاريخه ذات يوم”. يشرح ما يرمز إليه الطربوش، فيقول “هو التقاليد التي توارثناها ولم تعد تشبعنا ثقافياً ولا معنوياً”. في هذا الإطار، تبدو المسرحية “دعوة إلى نزع الموروثات والبدء من جديد. الفرد هو نقطة البداية، يجب أن يربح وأن يربح حياً لا شهيداً”.
يرفض إيلي مقولة أنّ المسرح قد مات، ولا يزال يراهن على تأثير المسرح التحريضي. فالمسرح “النرجسي والنخبوي عقيم”. من هذا المنطلق، تعدّ “شلاح الطربوش” بمثابة صرخة ضد التبلّد الذي سبّبته الأفكار الملوكة حول الشهادة والأرزة والدم. وكلّها قيم ضحية تُصادر ويُساء استغلالها فتفقد معناها.
هذا الإصرار هو الذي جعل المخرج الشاب يعود دائماً إلى بيروت. تلك المدينة “اللي بتخلّي الواحد يحلم”. غادرها مرّتين. مرّة خلال الحرب الأهلية عندما سافر إلى فيينا، ومرةً إلى مونتريال حيث تابع دراسته في المسرح وأسّس عام 1995 فرقته الخاصة. شارك في أهم المحترفات: مسرح الشمس وفرقة الإيماء “أومنيبوس”. كاد أن يغادر للمرة الثالثة منذ أشهر عدة، بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان. المشاكل الإنتاجية التي تعرّض لها وضعته أمام خيارين. تقليص الموازنة أو إسقاط المشروع نهائياً. اختار الحل الأول رغم صعوبته، ساعدته في ذلك حماسة فريق العمل. فجميعهم يشاركونه الرأي: “الحب هو الذي يصنع المسرح في بلاد لا تدعم الفنون. حب بيروت وحب المسرح هما وراء هذا العمل”.
الجمهور اللبناني عرف إيلي كرم كمخرج وككاتب مسرحي عام 1999 من خلال مسرحيته التي حازت إجماع النقاد والمشاهدين “تعا كول مجدرة يا صبي”. إلا أنّ نشاطه لا يقتصر على الإخراج، فهو ممثل (تصطفل ميريل ستريب، 2006)، ومنتج وكاتب سيناريو برامج تلفزيونية ومدير فني لفعاليات ثقافية ومدرّس مسرح في معهد الكفاءات وفي الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة.
لكنّ المسرح يبقى حبه الأول والأخير، مختبر تتبلور فيه الأفكار وتنضج وتختلط فيه الخبرات. فالممثلون المشاركون في “شلاح الطربوش” ينتمون الى جيلين مختلفين، والمسرح فرصة دائمة لاختبار أدوات ووسائل متنوعة.
في “شلاح الطربوش”، تنتمي بمعظمها إلى عالم السينما. فنحن في عصر السرعة، والمتفرّج يعيش حياة سريعة الإيقاع. من هنا، جرى تطويع المسرح ليناسب النص السينمائي بامتياز. نص يحمل مستويات عديدة يختلف استيعابها بحسب المتفرج الذي يستقبلها. ومشهدية تفرض مقاربات عدة مرهونة أيضاً بمدى وعي المشاهد. لكن هذا الأخير سيلاحظ حتماً، مهما تنوّعت رؤيته، ثبات الديكور والأزياء كرمز لثبات التسطيح والتسخيف الذي يتعرض له المواطن اللبناني على مرّ تاريخه ولن ينقذه منه سوى “شلح الطربوش”.

“شلاح الطربوش” ــ نصّ وإخراج إيلي كرم بين 16 آذار (مارس) و8 نيسان (أبريل) على «مسرح المدينة»
للحجز: 01,753010